مسلمو ميانمار.. صرخة من واد سحيق

أحد مساجد يانغون قبيل صلاة الجمعة
undefined

      عزت شحرور-ميانمار

لم يتصالح الإسلام بعدُ مع الدولة تماماً في هذه البلاد التي تسمى ميانمار وكانت تدعى بورما، لكن المرء لا يحتاج إلى كبير جهد كي يجد بيتاً من بيوت الله. أكثر من مائة مسجد تنتشر في أحياء يانغون -كما يؤكد أهلها- ومئات المدارس الملحقة بها، ولكل مسجد منها قصة وحكاية.

بعد يوم عمل شاق تحت شمس البلاد الحارقة، طلبنا من سائق الأجرة إيصالنا إلى أحد المساجد في العاصمة يانغون بحثا عن مطعم إسلامي، فقد اعتدنا في أسفارنا أن المسلمين يتخذون من جوار المساجد أماكن لسكناهم. وصلنا المسجد بعد صلاة العشاء.. كان بعض المصلين لا يزالون في فناء المسجد يتبادلون أطراف الحديث.. استقبلونا بترحاب وحفاوة واصطحبنا أحدهم وهو عبد الغفور في جولة بالمسجد.

عبد الغفور يتكلم العربية ويتحدثها بلسان الزمخشري ويحفظ كتاب الله.. حدثنا عن تاريخ المسجد الذي يعود إلى أكثر من مائة عام، وأشار لنا إلى مقبرة للمسلمين ملحقة بالمسجد، ثم طلب أن نتبعه إلى ما سماه الجامعة التي نعتها بأنها أم الجامعات الإسلامية في يانغون.

 
قبل أن نهم بصعود درج ضيق للدور الثاني من المسجد، استوقفتنا لافتة كتب عليها باللغة العربية "مدرسة العلوم الإسلامية".. المدرسة عبارة عن قاعتين كبيرتين مفتوحتين على بعضهما، تنبعث من السقف إضاءة خافتة لا يكاد المرء يبصر فيها سطور الكتب. في كل قاعة عدة طاولات دائرية كبيرة بقوائم قصيرة، يتحلق حولها طلبة بأعمار مختلفة يفترشون الأرض، وكل واحدة منها تمثل مجموعة تضم قرابة عشرة أشخاص يمثلون صفاً دراسياً. تتناثر على الطاولات نسخ من المصحف الشريف وبعض الكتب القديمة جداً بأوراقها الصفراء كتفسير الجلالين وابن كثير والسيوطي ومشكاة المصابيح.
مسجد السلطان ظفر شاه في يانغون (الجزيرة)
مسجد السلطان ظفر شاه في يانغون (الجزيرة)

بقايا الخوف
تحدثنا قليلاً مع الطلبة الذين لم يتقنوا لغة الضاد بعد، وإن كانوا حفظوا آيات كثيرة من كتاب الله. طلبنا من عبد الغفور السماح لنا بتصوير المدرسة، فأصر على استئذان المدير أولاً، لكن المدير اعتذر دون أن يبدي الأسباب.. قدّرنا أن بقايا خوف من حكم العسكر لا تزال في الصدور.. اتفقنا مع عبد الغفور وثلة من صحبه على العودة بعد يومين، حيث يصادف يوم الجمعة لتصوير وقائع أداء الصلاة.. ركبنا سيارة أجرة لتقودنا إلى ما تبين لنا أنه مأوى لكبار السن والعجزة من المسلمين.. قاعة كبيرة تنتشر فيها عشرات الأسرّة حيث يستلقي كبار السن، وأمامها فناء كبير ومطعم ومصلى.. وعندما طلبنا السماح بالتصوير مرة أخرى اعتذر مدير المركز.

عدنا إلى المسجد يوم الجمعة قبيل أداء الصلاة، حيث بدأ الزميل المصور عمله بتصوير بعض من يتوضؤون.. فوجئنا بشاب ملتح يضع نظارات طبية ويبدو عليه أنه على درجة جيدة من الثقافة.. قال بلغة إنجليزية طلقة حازمة وغاضبة: احملوا هذه الكاميرات واخرجوا من المسجد حالاً! فوجئنا بالأمر وبهذا السلوك الذي لا ينسجم مع طبيعة أهل البلاد بشكل عام، ولا مع ما لمسناه من مسلميها من رقة ولين.. حاولنا تهدئة الرجل والاستفسار منه عن السبب، لكنه ازداد ثوراناً وصراخاً وتلويحاً بسبابته في وجهنا قائلاً "عندما يتعلق الأمر بالشريعة فلا مجال للنقاش.. التصوير حرام وانتهى الأمر.. اخرجوا الآن".

ارتبك عبد الغفور وصحبه دون أن ينبسوا ببنت شفة، مما يدل عل أن الرجل الغاضب يتمتع ببأس ونفوذ.. أومأ لنا عبد الغفور فتبعناه.. استوقف أول سيارة أجرة وقال: هيا بسرعة كي نذهب إلى مسجد آخر.. اعتذر بلطف واقتضاب متمتما: "إنه من المتشددين"، ولم يزد على ذلك. كان الطريق قصيرا.. وصلنا إلى مسجد "ظفر شاه" والمصلون يهمون بإقامة الصلاة.

‪الحاج يو.أي لوين أثناء‬ (الجزيرة)
‪الحاج يو.أي لوين أثناء‬ (الجزيرة)

ظاهرة جديدة
وهنا حدثنا رئيس المجلس الإسلامي في ميانمار الحاج يو.أي لوين عما أسماه "ظاهرة جديدة تنتشر في أوساط المسلمين"، وهي "ظاهرة التشدد والتطرف الديني التي تتسرب إلينا من دول الجوار".

حدثنا الرجل ذو الثقافة الواسعة عن تاريخ المسجد الذي قال إنه أنشئ قبل نحو قرن ونصف، وإنه ملحق بضريح آخر سلاطين المغول في الهند، وعن تاريخ دخول الإسلام البلاد إبان حكم الخليفة هارون الرشيد "وفق وثائق تاريخية مؤكدة"، وذلك عبر بواخر التجار العرب التي كانت ترسو بموانئ منطقة أراكان جنوب البلاد، وفيها أقاموا مملكة استمرت ثلاثة قرون وتعاقب على حكمها 48 ملكاً.

يسمونهم هنا الروهينغا ولا يزال معظمهم يقطنون جنوب وجنوب غرب البلاد، خاصة في إقليم أراكان وراكين وفي مدينة ماندلاي، ويشكلون في بعض المناطق أغلبية. تقدر أعدادهم بنحو ستة ملايين نسمة (4% من عدد السكان)، لكن تقديرات غير رسمية تشير إلى أن نسبتهم قد تصل نحو 20%.

يعتقد بأن جذورهم تعود إلى أصول عربية من اليمن والحجاز، بالإضافة إلى أقليات فارسية وبنغالية وهندية.. تعرضوا للاضطهاد والقتل والتهجير الجماعي لدول الجوار كبنغلاديش وتايلند، لكن الحكومة تقول إن تلك النزاعات تقوم على أساس قومي لا ديني، وتتذرع بأن معظمهم ينحدرون من أصول بنغالية وتحاول إعادتهم قسراً إلى "بلادهم".. حملوا السلاح أحياناً للدفاع عن حقوقهم وعن وجودهم، وشكلوا جماعات مسلحة منها منظمة تضامن الروهينغا.

صرخوا كثيراً وظل صراخهم في واد سحيق وسط تجاهل تام من إخوانهم في الدين في شتى بقاع الأرض.. هاجر عشرات الآلاف منهم إلى الخارج وبعضهم إلى دول الخليج، وبرز منهم مقرئون معروفون، وغالبيتهم العظمى من السنة الأحناف. إلا أن العديد من التيارات والمدارس الفكرية بدأت تتسرب من دول الجوار وتنتشر بينهم. وهناك حضور ونفوذ قوي لجماعة التبليغ.

بدأت بعض المنظمات العربية والإسلامية مؤخراً تمد يد المساعدة لهم، حيث يقدم لهم الأزهر ست منح دراسية سنوياً، وتقدم لهم بعض الجمعيات الخليجية منحا للحج، لكنهم يشتكون من أن مثل هذه المنظمات ترهقهم بطلب أطنان من الأوراق والوثائق الرسمية، متجاهلة أوضاعهم وطبيعة نظام الحكم في بلادهم، كما يقولون.

المصدر : الجزيرة