يوميات "التحرير" - 2
![]() |
مئات ألوف المصريين هتفوا بميدان التحرير مطالبين برحيل مبارك (الجزيرة-أرشيف) |
نواف القديمي-صحفي وكاتب سعودي
كان يومًا مشهودًا.. عشرات الآلاف توافدوا إلى ميدان التحرير من كل الطُرُقات
والأزقة.. في ملامحهم ترى ثورة الغضب، وعلى وجوههم تبدو كل مرارات السنين.. وهم يلهثون بالأيمَان المُغلّظة أنهم لن يبرحوا هذه الساحة إلا بزوال النظام. هل انفجر المكبوت في دواخل هؤلاء بعد أن ظلّت نفوسهم تختزن لعقود مزيدًا من وقود الاشتعال؟! ميدان التحرير الذي يتوسط القاهرة ضخمٌ جدا.. أكبرُ بكثيرٍ من ساحتي الشُهداء ورياض الصلح في وسط بيروت، اللتين يملؤهما المُتظاهرون من تيّاري 14 آذار و8 آذار في الأزمات السياسيّة، ويُطلِقون على تلك التجمّعات (المُظاهرات المليونية). ما أن اقترب وقت الظهر حتى اكتظ ميدان التحرير بالحشود، حتى إن المُراقب من علٍ لا يكاد يجد فيه بُقعة فارغة، وتتكتل هذه الحشود في الميدان على شكل مجموعات ضخمة، تظل تهتف بالشعارات السياسيّة التي تُطالب الرئيس بالرحيل. وتستمر في ذلك من أول النهار حتى آخر الليل. وفي كل مرة يختارون هُتافًا ويُرددونه قرابة عشر مرات مُتتابعة، ثم ينتقلون إلى هتافٍ آخر مُشبع بكل نوايا الإصرار والتصميم الذي لا تغيبُ عنه أيضا الظَرافة المِصرية المعهودة حتى في الأزمات.. وقبضات الأيدي تتعالى مع كلِ هُتاف جديد.. وتبقى حناجر الجُمُوع تصدح في جميع أنحاء الميدان.. وتُحدِث دويًّا لذيذًا يوقد في النفس كُل كوامن الثورة. الشعب.. يُرِيد .. إسقاطَ النِظام يسقط يسقط حسني مبارك ارحل ارحل يا مُبارك.. السعوديّة بِانتِظَارك بالجيش.. والشعب .. حنكمّل المِشوار تغيير.. حُريّة.. عدالة اجتماعية ارحل ارحل زي فاروق.. شعبنا منك بقى مخنوق عَلِّ وعَلِّ وعَلِّ الصوت.. إللي حيهتف مش حيموتيا حُريّة فينك فينك.. حسني مبارك بينّا وبينك
يا حاكمنا بالمباحث.. كل الشعب بظلمك حاسس
ارحل بقا ياعم.. وخلي عندك دم هو مُبارك عايز إيه.. عايز الشعب يبوس رجليهيا مُبارك مش حنبوس.. بكرا عليك بالجزمة ندوس
يا جمال قل لأبوك.. كل الشعب بيكرهوك ثم يأتي أحدهم ويهتف بصوت عالٍ: حُسني مُباركفترُد الجُموع المُمتدة بكل ما أوتيت من صوت: باااطِل
حُسني مُبارك ... باااطِلجَمَال مُبارك... باااطِل
الحِزب الواطي... باااطِل
أحمد عز... باااطِل
فتحي سرور... باااطِل
" أحد الضباط نزل من دبابته واختلط بالحشود، وقام الناس برفعه على الأكتاف، وهتفوا باسم الجيش، والضابط يهتف معهم بالثورة، والحُرية، وحق الشعب المظلوم " |
والشاعر عبد الرحمن يوسف القرضاوي، والرِوائي اليساري علاء الأسواني، والدكتورة هبة رؤوف عزت التي قطعت رحلتها إلى أميركا وعادت خِصيصًا لتكون وسط الحشود، والسياسي القومي حمدين صبّاحي، وعدد من رموز اليسار، وشخصيّات سلفيّة لها برامج تلفزيونية، وشخصيات عامة كثيرة، وعددٌ من رجال الدين المسيحيين بأرديتهم الدينيّة وصُلبانهم المُعلّقة على رِقابهم.. ومجموعات من العلماء الأزهريين يرتدون العمائم.. وآلاف النساء ومئات الأطفال الذين قرروا أن يكونوا جُزءًا صميمًا من هذه الحشود.
وسط هذه الجُموع، لا تكاد تجد فصيلاً سياسيًّا غائبًا عن ميدان التحرير.. ورغم ذلك فكُل القيادات السياسية التي رأيتها سمِعتها تعترف بأن هذه الثورة ليست ثورة أحزاب أو جماعات وإنما هي ثورة الشباب بامتياز. فمجموعات الشباب وفي مُقدمتهم شباب 6 أبريل هم أكثر من نشطوا في تنظيم هذه المُظاهرات وحشد الناس لها، وهم من حددوا تاريخ 25 يناير لبدء الثورة. وهم من يبقون مُلازمين للميدان طوال الليل، رغم قِلّة الطعام والشراب، ووسط لفح البرد وأجواء الصقيع، ودون خِيام تذود عنهم الريح.
كل التحية لهؤلاء الأبطال الذين أعادوا الروح إلى جسد الأمة بعد أن كِدنا نفقد الأمل.
وكل التحية لتونس التي أشعلت الثورة، وحقنت دماء البوعزيزي في شرايين
الشعوب العربيّة.
التعليقات