يوميات "التحرير" – 2

صورة من التظاهرة المليونية بميدان التحرير وسط القاهرة ومناطق ومدن في مصر اليوم 01/02/2011 - الجزيرة

نواف القديمي-صحفي وكاتب سعودي

كان يومًا مشهودًا.. عشرات الآلاف توافدوا إلى ميدان التحرير من كل الطُرُقات والأزقة.. في ملامحهم ترى ثورة الغضب، وعلى وجوههم تبدو كل مرارات السنين.. وهم يلهثون بالأيمَان المُغلّظة أنهم لن يبرحوا هذه الساحة إلا بزوال النظام.


هل انفجر المكبوت في دواخل هؤلاء بعد أن ظلّت نفوسهم تختزن لعقود مزيدًا من وقود الاشتعال؟!


ميدان التحرير الذي يتوسط القاهرة ضخمٌ جدا.. أكبرُ بكثيرٍ من ساحتي الشُهداء ورياض الصلح في وسط بيروت، اللتين يملؤهما المُتظاهرون من تيّاري 14 آذار و8 آذار في الأزمات السياسيّة، ويُطلِقون على تلك التجمّعات (المُظاهرات المليونية).


ما أن اقترب وقت الظهر حتى اكتظ ميدان التحرير بالحشود، حتى إن المُراقب من علٍ لا يكاد يجد فيه بُقعة فارغة، وتتكتل هذه الحشود في الميدان على شكل مجموعات ضخمة، تظل تهتف بالشعارات السياسيّة التي تُطالب الرئيس بالرحيل. وتستمر في ذلك من أول النهار حتى آخر الليل. وفي كل مرة يختارون هُتافًا ويُرددونه قرابة عشر مرات مُتتابعة، ثم ينتقلون إلى هتافٍ آخر مُشبع بكل نوايا الإصرار والتصميم الذي لا تغيبُ عنه أيضا الظَرافة المِصرية المعهودة حتى في الأزمات.. وقبضات الأيدي تتعالى مع كلِ هُتاف جديد.. وتبقى حناجر الجُمُوع تصدح في جميع أنحاء الميدان.. وتُحدِث دويًّا لذيذًا يوقد في النفس كُل كوامن الثورة.


الشعب.. يُرِيد .. إسقاطَ النِظام


يسقط يسقط حسني مبارك


ارحل ارحل يا مُبارك.. السعوديّة بِانتِظَارك


بالجيش.. والشعب .. حنكمّل المِشوار


تغيير.. حُريّة.. عدالة اجتماعية


ارحل ارحل زي فاروق.. شعبنا منك بقى مخنوق


عَلِّ وعَلِّ وعَلِّ الصوت.. إللي حيهتف مش حيموت

يا حُريّة فينك فينك.. حسني مبارك بينّا وبينك

يا حاكمنا بالمباحث.. كل الشعب بظلمك حاسس


ارحل بقا ياعم.. وخلي عندك دم


هو مُبارك عايز إيه.. عايز الشعب يبوس رجليه

يا مُبارك مش حنبوس.. بكرا عليك بالجزمة ندوس


يا جمال قل لأبوك.. كل الشعب بيكرهوك


ثم يأتي أحدهم ويهتف بصوت عالٍ: حُسني مُبارك

فترُد الجُموع المُمتدة بكل ما أوتيت من صوت: باااطِل


حُسني مُبارك … باااطِل

جَمَال مُبارك… باااطِل

الحِزب الواطي… باااطِل

أحمد عز… باااطِل

فتحي سرور… باااطِل


"
أحد الضباط نزل من دبابته واختلط بالحشود، وقام الناس برفعه على الأكتاف، وهتفوا باسم الجيش، والضابط يهتف معهم بالثورة، والحُرية، وحق الشعب المظلوم

"

وكثير من هذه الهتافات ترحب بالجيش.. وتعوّل عليه.. حتى إن أحد الضباط نزل من دبابته واختلط بالحشود، وقام الناس برفعه على الأكتاف والهتاف باسم الجيش، وهو يهتف معهم بالثورة، والحُرية، وحق الشعب المظلوم.


وفي أطراف الميدان توجد بعض دبابات الجيش التي يقف على ظهرها بعض الجنود.. فصارت جُموع الناس تُحيي الجنود وتهتف باسم الجيش.. ثم بعد مُنتصف النهار اعتلى عشرات الأشخاص هذه الدبابات. وبدأت بعض هذه الدبابات الدوران في الميدان وبين الحشود وسطحُها مُمتلئ عن آخره بالناس، فصار المُتظاهرون يدورون على ظهر هذه الدبابات وكأنهم في نُزهة أو في مدينة ألعاب!.. والجيش مُحتفٍ بهم ولا يُحاول إنزالهم.


وحين يأتي وقت الصلاة تسكت غالب الهتافات، وتتالى أصوات الأذان في أرجاء الميدان.. ثم يبدأ كثيرٌ من الناس التراصّ للصلاة، ويُكبِّر الإمام، وتمتد الصفوف إلى مالا تُدركه العين.


وفي ثنايا النهار، وكل ساعة أو ساعتين تأتي من أحد الشوارع الفرعية جُثة أحد القتلى الذين سقطوا في مواجهات أمس، فيحملها الناس بحماسٍ وغضب ويدورون بها في أرجاء الميدان، ويشتعلُ الهُتاف: "عاوزين حقه.. عاوزين حقه"، ثم بعد بعض الوقت يضعونه في مُقدمة الصفوف ويُصلون عليه صلاة الميّت.


وفي وسط النهار، تأتي درّاجات نارية تحمل خلفها سِلالا ضخمة، لتوزع بعض الأكل على الجُمُوع.. وبالذات على مجموعات الشباب التي قررت الاعتصام، والبقاء ليلاً ونهارًا وسط الميدان.


وأثناء وقوفنا وسط إحدى المجموعات المُحتشدة في الميدان، سألتُ أحد المتظاهرين الشباب: إيه توقعاتك لمُستقبل التظاهرات؟.. فرد عليّ بحماس: مش حنرجع إلا لما يسقط النظام.. ثم أضاف بظَرَف: ولما ننتصر.. حنلعب مع تونس ع النهائي).


من بين ثنايا الجموع وجدت صديقًا عزيزًا يعمل صحفيًّا، وكان ناشطًا سياسيًّا. وهو شاب مثقف ومتخصص في الفلسفة كنتُ كلما التقيته سابقا في القاهرة وتحدثتُ معه عن السيناريوهات المُتوقعة لمُستقبل مصر، يُجيبني بيأس: الأمر أعقد مما تتوقع.. هناك شبكة فساد مُتواطئة مع شبكة رجال الأعمال، وهم مرتبطون بمصالح الأمن والجيش، ويحيط بكل ذلك شبكات البيروقراطية المُستنفِعة والتي تضم ملايين الناس.. الحل أعقد مما تتوقع، هذا إن كان هناك حل أصلاً.


حينما رأيته هذه المرة وسط ميدان التحرير قلتُ له مبتسمًا: ها يا صديقي، ما أخبارك مع هذه الحُشود، هل هُناك أمل؟ رد عليّ ووجهه ينضح بالتفاؤل: طبعًا هُناك أمل.. الروح عادت في جسد الشعب من جديد.. لم أكن أتوقع أنني سأشهد يومًا كهذا.


الدكتور محمد سليم العوا أمضى يومه بين الجُموع، وألقى في الناس خُطبة عصماء وبليغة، حثهم فيها على مُلازمة الميدان والصبر، وبشرهم بأن الفرج قد اقترب بإذن الله. وتلا عليهم الآيات والأحاديث التي تحثهم على مواجهة الظلم، وأنها أفضل الجهاد.


وكذلك أبو العلا ماضي مؤسس حزب الوسط الذي كان طوال اليوم يدور بين الجُموع، وخطب هو أيضا في المُحتشدين وحثهم على مُواصلة الصمود، وقال إنهم أمام مِفصل تاريخي سيكون له ما بعده. والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، ومحمد عبد القدّوس القياديان الإخوانيان كانا طوال اليوم في الميدان يلتقيان بالشباب ويُلقيان الكلمات. والشيخ صفوت حِجازي الذي كان دومًا محمولاً على الأكتاف وينتقل من طرف في الميدان إلى طرف آخر ويخطب في الجموع.

والشاعر عبد الرحمن يوسف القرضاوي، والرِوائي اليساري علاء الأسواني، والدكتورة هبة رؤوف عزت التي قطعت رحلتها إلى أميركا وعادت خِصيصًا لتكون وسط الحشود، والسياسي القومي حمدين صبّاحي، وعدد من رموز اليسار، وشخصيّات سلفيّة لها برامج تلفزيونية، وشخصيات عامة كثيرة، وعددٌ من رجال الدين المسيحيين بأرديتهم الدينيّة وصُلبانهم المُعلّقة على رِقابهم.. ومجموعات من العلماء الأزهريين يرتدون العمائم.. وآلاف النساء ومئات الأطفال الذين قرروا أن يكونوا جُزءًا صميمًا من هذه الحشود.


وسط هذه الجُموع، لا تكاد تجد فصيلاً سياسيًّا غائبًا عن ميدان التحرير.. ورغم ذلك فكُل القيادات السياسية التي رأيتها سمِعتها تعترف بأن هذه الثورة ليست ثورة أحزاب أو جماعات وإنما هي ثورة الشباب بامتياز. فمجموعات الشباب وفي مُقدمتهم شباب 6 أبريل هم أكثر من نشطوا في تنظيم هذه المُظاهرات وحشد الناس لها، وهم من حددوا تاريخ 25 يناير لبدء الثورة. وهم من يبقون مُلازمين للميدان طوال الليل، رغم قِلّة الطعام والشراب، ووسط لفح البرد وأجواء الصقيع، ودون خِيام تذود عنهم الريح.


كل التحية لهؤلاء الأبطال الذين أعادوا الروح إلى جسد الأمة بعد أن كِدنا نفقد الأمل.

وكل التحية لتونس التي أشعلت الثورة، وحقنت دماء البوعزيزي في شرايين الشعوب العربيّة.

المصدر : الجزيرة