يوميات "التحرير" – 1

AFP / Egyptian demonstrators sit around a fire to keep warm in Tahrir Square, in central Cairo, on January 30, 2011, following a day when people gathered on the streets for a sixth day running calling for their President Hosni Mubarak to resign. AFP PHOTO/KHALED DESOUKIAFP PHOTO /

بالنار يتدفؤون وعلى ضوئها يقرؤون أخبار انتفاضتهم في الصحف (الفرنسية) 

نواف القديمي-كاتب وصحفي سعودي

صباح كل يوم.. نتيه بين الحشود.. وسط مئات الآلاف في ميدان التحرير.. نتنفس هواء الحرية المشبع برائحة الغاز المسيل للدموع.. ونهتف مع الهاتفين.. ونلهث وراء الأمل الكبير لهذه الأمواج البشريّة.

إرادة التحرر التي أشعلت الكرامة في شرايين الشعب.. وروح الثورة التي أوقدت كل كوامن الوجع المُتراكم عبر السنين.. هي التي ستصنع النصر.. وهي التي ستُعيد الإرادة للأمة من جديد.. وهي التي ستقتلعُ الشوك من حُقول الحُلُم.. وستزرع أزهار الزنبق في أراضي الجدب.


ما يجري الآن في ميدان التحرير.. لا يقف على أعتاب (إزالة ظالم).. بل يمتدُّ إلى ما هو أكبر وأهم.. إلى إعادة إنتاج الإرادة.. إلى تدشين صرح الحُريَّة بالعرق والدم.. إلى بناء متاريس، وحَفر خنادق، تقف دون اغتصاب القرار، ومُصادرة حق الأمة في الاختيار.


وسط الجُمُوع المُكتظّة في الميدان.. أتفرّس في الوجوه.. في الغضب المُتراكم خلف الملامح الهادئة.. في الحناجر التي ما ملّت الهُتاف.. وأقتربُ من رجلٍ خمسينيٍّ أنهكه التعب.. يجلس في وسط الميدان مع طفله ذي السبعة أعوام، ومشغولٌ بالحديث معه.

أجلسُ بقربه.. وأستلقي على ظهري.. وأستمعُ لهذا الأب وهو يقول: (يا ابني.. احنا طِلعنا هنا علشان كرامتنا.. وحنبات هنا علشان كرامتنا.. مش مهم نكون بردانين أو دفيانين.. المهم إنه مش أي واحد يُحكُمنا ويظلمنا.. إحنا لازم يكون لنا رأي.. ومنسكتشِ ع الظالم).. وأنا أستمع لهذا الكلام المُشتعل وسط لفح الصقيع.. شعرتُ بحُنجرتي تتيبَّس.. وبشيءٍ ساخنٍ يحجب الرؤية عن عينَيّ.. وعرفتُ حينها ماذا تعني التربية.. وماذا تعني القدوة.. وماذا تعني الكرامةُ حين تسري في دم الفقير والكادح فلا تزيده إلا إصراراً ويقيناً.


ليست حروب الرغيف هي التي أخرجت الحشود.. ولا وأد الجوع هو ما ألهب نار الغضب في أرواحِهم.. ولا ارتباكاتُ الجيوبِ الخاوية هي التي جعلت حناجرهم تهتفُ وتُنادي.. بل هو الأمل.. والكرامةُ التي قد تذوي لكنها لا تموت.. ووجع الظلم الذي يُشعل الثورة من تحت الرماد.


دوي الحشود يرجُّ ميدان التحرير صباح مساء.. فيتداعى ذلك الصوت إلى كُلِ العالم.. ليصل إلى تخوم المُحيط وشواطئ الخليج لحناً جميلاً وعذباً يُخبِرنا: أن مُكعّباتِ الدومينو بدأت تتهاوى.. وأن حيّ الرُؤساء في جدة بانتظار الجميع.

المصدر : الجزيرة