غرباء في حي الزيتون بعد أن تغيّرت معالم المكان

REUTERS / Palestinians look at houses destroyed during Israel's offensive in Jabalya in the northern Gaza Strip January 18, 2009. Palestinian militants in the Gaza Strip launched
 فلسطينيون يتفقدون ما خلفه الإسرائيليون بعد الانسحاب (رويترز)

تشرق الشمس على جنوب مدينة  غزة، لتكشف عن حصيلة ثلاثة وعشرين يوماً من القصف والتدمير المتواصل.

 
تماماً كما فعل مئات الفلسطينيين الذين فوجئوا بتوقف أصوات القصف وإطلاق الرصاص، كانت وجهتنا مناطق جنوب مدينة غزة التي كان لها النصيب الأكبر من الدمار والقتل والتشريد.
 
كانت البداية من مناطق جنوب شرق المدينة في حي الزيتون، تقدمنا تحملنا أقدامنا بصعوبة، حتى بدأنا نشاهد ما لم نتوقعه من قبل، بيوت مدمرة ومصانع متفحمة، وممتلكات باتت في خبر كان، ودور عبادة منها ما دمر بشكل كامل كمسجد التوحيد وأخرى أصيبت بشكل مباشر ودمِّرت مآذنها.
 
مضينا بشغف كبير للتعرّف على أبعاد الدمار الذي خلفه دوي عشرات الصواريخ والقذائف التي زلزلت غزة، فهذه معصرة للزيتون سُوِّيت بالأرض، وعلى جوارها منزل لعائلة السرحي ومزرعة دواجن ومزرعة أبقار ومسجد سعد بن أبي وقاص ومصنع للأسمنت المسلح، وغيرها الكثير من المعالم التي سحقتها الآلة الحربية الإسرائيلية.
 
عشرات المنكوبين وجدوا أنفسهم في العراء (رويترز)
عشرات المنكوبين وجدوا أنفسهم في العراء (رويترز)

وما نال الحجر لم يستثنِ الشجر، فمئات الدونمات من أشجار الزيتون المعمرة دُفنت في الأرض ولم يبق لها أثر، بعد أن كانت المعيل الوحيد لمواطني هذه المنطقة الفقيرة اقتصادياً. المشهد يبدو مروِّعاً من حجم التجريف الكبير الذي تعرضت له هذه الأشجار والمزارع والحقول الزراعية الواسعة. لقد خلط العدوان الطرق وممتلكات المواطنين بعضها ببعض، حتى تغيّرت ملامح المنطقة بشكل كامل.

بلا بنيات
ها هم سكان المنطقة يعاينون الحقائق الماثلة على الأرض، فمقومات حياتهم الأساسية من مساكن ومتاجر وأشجار ومرافق، ذهبت أدراج الرياح.
على الناحية الغربية من شارع صلاح الدين الذي يقطع جنوب مدينة غزة، كانت لنا جولة أخرى، إذ تكفي ساعات معدودة لترسم مشهد الآلام والمعاناة التي لا تكفي مجلدات بأكملها لحصرها أو تدوينها.

 
الدمار الواسع يجعل أهل المنطقة أنفسهم غرباء. فالمنطقة المعروفة بالنشاط الصناعي إلى جانب القطاع الزراعي تغيّرت بالكامل، منازل هجرها سكانها تحت نيران الاحتلال باتت وكأنها مواطن أشباح، ومصانع ومعامل باتت في عداد الذكريات الغابرة. خطوط كهرباء مقطعة على الأرض بفعل استهدافها بصواريخ الاحتلال، وكذلك خطوط الهاتف التي أتى عليها العدوان.
 
تقدمنا قليلاً لنوغل في ما يشبه الكابوس المتجسد أمام الأبصار. ما إن وصلنا بيوت عائلة السموني، الواقعة جنوب غربي حي الزيتون، حتى تأكدنا أننا في المكان إياه الذي استمر وجود قوات الاحتلال فيه أكثر من أسبوعين متواصلين حافلين بالفظائع التي تنتفض لهولها الأبدان.
 
اخترقنا جموع المواطنين لنصل إلى منزل تحاول أطقم الدفاع المدني انتشال جثث من تحت ركامه، لا معدات لديها ولا عمّال، فقد استشهد نصف طواقم الدفاع المدني، كما دمّر العدوان كثيراً من الآلات.
 
وقفنا في المكان المنكوب نستطلع آراء المواطنين عما حدث هنا. أحد الناجين من عائلة السموني يؤكد أنهم شاهدوا مستوطنين إسرائيليين مشاركين في ارتكاب الفظائع، موضحاً أنهم كانوا يخيِّرون الفلسطينيين بأية وسيلة يقتلونهم.
 
وليس بعيداً جلس الخمسيني صبحي السموني وهو مختار العائلة التي فقدت عشرات الضحايا، سألناه عما جرى لكنه لم يَقوَ على الكلام، فاعتذر لنا. لم يتحرّك من مكانه كما لم يستطع التعبير. اكتفى الحاج صبحي بالجلوس حيث هو، ليسأل عن صاحب أو صاحبة الجثة التي يتم إخراجها من تحت ركام منزل فجره الإسرائيليون على العشرات من أبناء عائلته، كانوا داخله.
 
وقائع مأساوية
حلمي (25 عاما) هو أحد الناجين القلائل من بين حطام هذا المنزل. وقف ليروي تفاصيل الأهوال التي شهدها، ووسائل القتل العمد. احتمى أفراد عائلة السموني والعائلات المجاورة في منازلهم لاعتقادهم أنهم يدرؤون عن أنفسهم الخطر المحدق بهم. لم يدر في خلد حلمي وأسرته الذين قتلتهم إسرائيل في منازلهم، أنّ هذه المنازل ستكون ذاتها مسرح القتل الجماعي عندما عمدت قوات الاحتلال على تفجيرها على رؤوس ساكنيها.
 
لم تجد سوى الله لتشكو ما حل بمنزلها (رويترز)
لم تجد سوى الله لتشكو ما حل بمنزلها (رويترز)

خلال حديثه للصحفيين حلّقت طائرات إف 16 بشكل منخفض جداً لإثارة الهلع بين سكان غزة، إلاّ أنّ حلمي رمقها بنظرة استخفاف، فمشاهد القتل الجماعي التي رآها بعينيه لأبناء عائلته تهون معها قذائف الطائرات الحربية.

 
وفجأة قطع حديثنا نداء أطقم الدفاع المدني، فقد عثرت على جثث أخرى تحت الأنقاض. سارعنا إلى المكان، رأينا منظراً لا يمكن نسيانه على مرّ الزمان. أخرجت تلك الطواقم جثثاً متحللة بعد مرور أكثر من أسبوعين على استشهادها وعدم سماح الاحتلال بإخراجها. تبيّن أنّ إحداها لوالد الشاب حلمي الذي أغمي عليه عندما رأى والده بهذه الحال.
 
ليس بعيداً عن موقع نكبة آل السموني، رأينا حطاماً هائلاً، بدا واضحاً بعد التدقيق أنه مسجد التوحيد الشهير بالمنطقة، وذلك من خلال بقايا قبة صفراء كانت تنتصب فوق الحطام.
 
أكد عدد من المواطنين بالمكان أنّ الغزاة الذين غيّروا معالم المنطقة بالكامل، قاموا باقتحام المسجد ووضع المتفجرات داخله ومن ثم تفجيره بطريقة همجية.
 
قبل مغادرتنا المكان، جاء صوت من بين جموع المواطنين، إنه رجل أنهكه التعب والإعياء بعد ما يربو على ثلاثة أسابيع حربا، قالها بصوت يغمره التحدي "سنبقى صامدين بهذه الأرض، سنبقى شوكة في حلق الغزاة".
المصدر : قدس برس