ثورة بلا ثوار.. كتاب يشخّص أوجاع الربيع العربي

Protesters demonstrate against Tunisian President Zine al-Abidine Ben Ali in Tunis January 14, 2011. Tunisian President Ben Ali stepped aside on Friday after failing to quell the worst anti-government unrest in his two decades in power. As the prime minister stepped in until promised elections can be held, Ben Ali's whereabouts were unclear. Al Jazeera television said he had left the country. REUTERS/Zohra Bensemra (TUNISIA - Tags: POLITICS CIVIL UNREST)
التونسيون دشنوا الربيع العربي وأطاحوا بزين العابدين بن علي يوم 14 يناير/كانون الثاني 2011 (رويترز)

ماذا بقي من الثورات العربيّة بعد سبع سنوات من اندلاعها؟

– يجيب على هذا السؤال عالم الاجتماع آصف بيات في كتاب أصدره في أغسطس/آب الماضي تحت عنوان "ثورة بلا ثوار"، وكتب عنه الفرنسي آلان غريش عرضا في موقع "أوريان 21".

عايش بيات ثورتين في المنطقة: في طهران مع سقوط الشاه عامي 1978-1979، وفي القاهرة عامي 2011-2012، مما يجعل منه شاهداً مميزاً، ويؤهلّه لمقارنة هاتين التجربتين.

بخصوص إيران كان لفكرة الثورة صدى كبير لدى شرائح واسعة من المجتمع، سواء الحداثية أو التقليدية. وقد كانت راسخة عند الماركسيين، كما في الإسلام السياسي، وتحملها الشخصية الرمز علي شريعتي، وهو مفكّر إسلامي ماركسي.

وقد تزامن سقوط الشاه مع انهيار جهاز الدولة وتطوّر حراك اجتماعي قوامه وضع اليد على الأراضي والمساكن والمصانع، بينما كانت القيم الجمهورية مغرية لكونها تجمع بين تأكيد السيادة الشعبية والتطلع إلى العدالة الاجتماعية.

تزامن ذلك مع اندلاع الثورات في العالم الثالث؛ من اليمن إلى فلسطين، ومن أميركا اللاتينية إلى المستعمرات البرتغالية. وقد شهدت هذه الحقبة انتصار الشعب الفيتنامي على الولايات المتحدة وانهيار آخر مخلفات الإمبراطوريات الاستعمارية.

إذن كل هذه النضالات كانت تغذي المخيال الفكري للثوريين الإيرانيين، سواء أكانوا ماركسيين أو متدينين. كان العداء للقوى الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة عامّاً، وكانت هيمنة الأفكار الاشتراكية تتأكد في عدّة مجالات.

ويشير المؤلف إلى أن هذا الزخم امتد إلى حركة الإخوان المسلمين حيث كانت تدعو إلى "الاشتراكيّة الإسلاميّة"، نظرا لأن التحوّلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً.

ولكن الوضع تغيّر بعد ثلاثين عاماً، حيث تلاشى الأفق الثوري وأصبحنا نعيش حقبة ما بعد الأيدولوجيا، "فالأصوات الحالية سواء العلمانيّة أو الإسلاميّة تقبل باقتصاد السوق وعلاقات الملكيّة والعقلانيّة النيوليبراليّة".

وقد أدّى هذا المنحى إلى نزع الطابع السياسي عن المعارضة حول العالم، إذ ركزت هذه الأخيرة على الدفاع عن حقوق الإنسان والحقوق الفرديّة وحقوق النساء والأقليات دون استيعاب فكرة أنّ حيازة هذه الحقوق مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمسائل الاجتماعيّة والطبقية.

‪المصريون احتفلوا بسقوط حسني مبارك يوم 14 فبراير/شباط 2011‬ (غيتي)
‪المصريون احتفلوا بسقوط حسني مبارك يوم 14 فبراير/شباط 2011‬ (غيتي)

القطع الراديكالي
وإذا ما كانت الثورات العربية قد انتشرت بسرعة مدهشة من المغرب إلى سوريا موقعة بأربعة دكتاتوريين في ستة أشهر، فإنّها لم تشهد ولا حتى طالبت بقطع راديكالي مع النظام الاقتصادي والسياسي القديم.

فهل يرجع الفشل المتكرر منذ ذلك الحين إلى الثورة المضادة؟

– إنّه تفسير تبسيطي جداً، فالحركات الثوريّة تؤدي دائماً وفي كل مكان إلى ظهور الثورة المضادة.

إذن، السؤال الأهم هو: هل كانت الثورات ثوريّة بالقدر الكافي لمجابهة مخاطر الارتداد؟

– في حالة العالم العربي، الجواب هو: لا.

هل يمكن إذن الحديث عن ثورات لم يكن للفاعلين الرئيسيين فيها أي مشروع ولا أيدولوجيا ثورية؟

– نعم، وهذا ما يفسّر عنوان الكتاب "ثورة بلا ثوّار"، لأنّ المسار قد أفلت إلى حدّ ما من مطلقيه، مع بروز "أولئك الذين هم في الأسفل" والذين وضعوا منذ عقود إستراتيجيات مقاومة ونضال.

يتناول الكتاب المشاكل التي رافقت التمدن وتآكل دور الدولة والتسريح من القطاع العام، وحاجة الناس إلى العمل الوقتي وغير النظامي من أجل تلبية احتياجاتهم. وقد أدى ذلك إلى أن الكثير من المهمشين اضطروا للعيش في الأماكن العامة والشوارع.

ووفق بيات فإن الشارع أصبح مكان مواجهات مستمرة مغلّفة وعنيفة إلى حد ما، خاصة أن المدن قد خلقت حاجيات جديدة لا تملك الدولة تلبيتها، وقد انحصر دور الدولة في المراقبة والعقاب.

في استطلاع رأي أنجز في مصر عشية ثورة 2011، كان الماء الصالح للشرب وخدمات الصرف الصحي متقدّميْن في مطالب المصريين على مطلب العمل.

في الشارع، يتشكّل أيضاً الوعي الجمعي للشباب فهم مضطرون إلى تحدي النظام القائم المتمثل في الشرطة، سواء أكانوا باعة جوّالين أو شباباً غير تقليديين أو من مشجعي فرق كرة القدم "الألتراس".

ويتحدث المؤلف هنا عما يسمّيها "اللاحركات الاجتماعية" التي تختلف عن الحركات الاجتماعية لكونها موجّهة أولاً نحو الفعل ولا تحركها أيدولوجيا.

وهذه الحركات تضع مطالبها مباشرة قيد التنفيذ، كما أنّ عملها غير مفصول عن الحياة اليومية.

يستعرض المؤلف قوّة الأعداد الكبيرة وكيف تضفي شرعية على هذه التحركات، ويقول إن ممارسات الأعداد الكبيرة تجعلها تلتقط وتتملك مساحات القوة في المجتمع، حيث يمكن للهامشيين تنمية وتعزيز وإعادة إنتاج قوتهم المضادة. "إنّ آثار أعمالهم لا تتلاشى بالضرورة في العزلة، إذ يمكنهم الالتقاء، منتجين ديناميكية أقوى من مجموع قواهم الفردية".

وهذه المقاومة اليومية تم التعبير عنها في الميدان عبر احتلال الأرصفة من قبل الباعة المتجولين وحيازة الأراضي والبناء غير المرخص ومطالبة الشباب بحقهم في الترفيه، ومطالبة النساء المسلمات باستقلاليتهن في الفضاء العام.

ووفق المؤلف فإن هذه "اللاحركات" جزء من الحياة اليومية، وهي التي أعطت "الربيع العربي" طابعه الثوري، فقد مكنت من تجاوز الإطار الضيق للفكر العقلاني، لكنها لم تتواصل لأن الطبقة السياسية قد طُبعت بالأيدولوجيا الليبرالية التي لا يمكنها تجاوزها.

ويضيف "بينما مثلت الثورات العربية عملياً اندفاعات ومبادرات من جانب الهامشيين، فإنّه لم يوجد أي تناول فكري جدي أو إطار أيدولوجي أو حراك اجتماعي ليجذرها".

على العكس، فإنّ "المنطق النيوليبرالي السائد بين النخب الليبرالية كما الإسلاميّة" قد انتقص من هذه المبادرات، وهو ما يشكل الفرق بين هذه الوضعية والحال في السبعينيات.

‪الثورة السورية اندلعت في درعا يوم 18 مارس/آذار 2011‬ (رويترز)
‪الثورة السورية اندلعت في درعا يوم 18 مارس/آذار 2011‬ (رويترز)

انعدام الأفق
وفي المحصلة فإن انعدام الأفق وضع حدوداً (سياسة الشارع) و"كانت مظاهرات ميدان التحرير في القاهرة، وبويرتا ديل سول في مدريد، وليبيرتي سكوير في نيويورك، تعبيراً خارقاً للعادة عن سياسة الشارع في الذاكرة الحديثة. لكنّ كونها خارقة للعادة هو ما يُظهر حدودها في الأوقات العادية، إذ لا يمكن استمرارها لمدة طويلة من الزمن.. لأنّها في جوهرها منفصلة عن الحياة اليومية".

ويصح هذا طبعاً في العالم العربي أكثر منه في الغرب، لأنّ التعبئة الطويلة المدى قد تُرجمت في الواقع للأكثر فقراً وتدهوراً في مستوى العيش بسبب "عدم الاستقرار" وانهيار السياحة وانخفاض الاستثمارات وعجز الدول الفقيرة أساساً والمنهكة من عشرات السنين من الفساد والسياسات النيوليبرالية.

أحد المكاسب الأكثر أهميّة لهذه الثورات العربية والأكثر ديمومة أيضاً هو "تغيير الوعي" الذي كان من مؤشراته البروز الفج للأفكار المحافظة والليبرالية على الساحة السياسية والنقاشات الحامية وغير المسبوقة.

ولذلك لم ير الرأي العام الغربي الذي ألهته عناوين الصحف الكبيرة حول "الخريف الإسلامي" غير جانب واحد: تنامي السلفية والأفكار المحافظة مع ظهور الملتحين والنساء المنقبات وشرطة الآداب، مما ينتقص من التعددية والدولة المدنية وحقوق النساء، وظهور الإلحاد العلني.

ورغم عودة العصا ورغم الحروب، فمن المستبعد أن تنطفئ هذه الديناميات، إنّها تأخذ فقط أشكالاً جديدة: ثقافية أحياناً، ومخفية أحياناً أخرى لكنّها دوماً حيّة.

في نهاية هذه الرحلة الطويلة لا يمكننا إلا أن نتساءل: هل "الحالة العربيّة" استثنائيّة إلى هذا الحد رغم خصوصياتها، لاسيما ضعف الدولة الوطنية تحت وطأة عدم كفاءة مسيريها والمنظمات العابرة للأوطان على غرار تنظيم القاعدة أو الدولة الإسلامية؟

في كلّ مكان وعلى مرّ السنين، فُرضت قيود أيدولوجية تلخصها جملة مارغريت تاتشر "لا يوجد بديل"، وحسب تقديرها يجب التخلي عن أي فكرة للتغيير العميق، فالطريق الوحيدة نحو غد أفضل تمر عبر إصلاح سوق العمل أو فتح الأسواق.

المصدر : الصحافة الفرنسية