هوية اليونان الأوروبية على المحك

لبيب فهمي


أوروبا في الميثولوجيا الإغريقية القديمة أميرة أغواها كبير الآلهة زيوس الذي تمثل لها في صورة ثور أبيض ثم استدرجها إلى جزيرة كريت. اليوم وبعد تفجر أزمة الديون الأوروبية يصح التساؤل: من يغوي من؟

عندما انضمت اليونان إلى الاتحاد النقدي الأوروبي، اختارت أثينا رسما يجسد "أسطورة يوروبا " كوجه لليورو من فئة 2 يورو. كان ذاك أمرا جميلا أن بدا قادة أوروبا قادرين على المزاوجة بسهولة ويسر بين الحضارة الإغريقية القديمة وأوروبا الحديثة.

مسألة الهوية
وبعيدا عن سؤال "الحياة والموت" الذي يلاحق اليورو هذه الأيام، فإن الأمر الأهم والأخطر الذي غدا على محك أزمة ديون القارة هو الهوية الأوروبية للمجتمع اليوناني المعاصر ولا شيء غيرها.

هذه الهوية ستتعرض لاختبار قاس إذا ما أقصيت اليونان من عضوية اليورو وتفجرت مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية. تلك ستكون أم الأزمات.

مثلهم مثل شعوب الدول الواقعة على أطراف أوروبا كبريطانيا وروسيا وإسبانيا وتركيا، كان اليونانيون قديما كثيرا ما يقولون "أريد الذهاب أو السفر إلى أوروبا"، وهي عبارة دارجة على ألسنتهم وكأن بلدهم لا ينتمي للقارة الأوروبية حقيقة.

هذه النظرة لها جذور عميقة ومرتبطة ارتباطا وثيقا بتجارب تاريخية قاتمة.

منذ العصور الوسطى وحتى حرب الاستقلال بين العامين 1821 و1832، كانت اليونان تحت الحكم العثماني، وما أن وجدت الأمة اليونانية نفسها تولد من جديد، حتى عاجلتها القوى الأوروبية العظمي بتعيين أمير ألماني في سن المراهقة حاكما عليها، وطالبوها بتسديد الديون العظمية التي تراكمت عليها أثناء حرب الاستقلال.

وحسب عالمي الاقتصاد الأميركيين كينيث روغوف وكارمن راينهارت، فإن الإفلاس حالة متكررة في اليونان، فمنذ حصولها على الاستقلال كانت أثنيا تقع في وهدة الإفلاس مرة كل عامين تقريبا، لكن تاريخ الإفلاس في اليونان أبعد من ذلك بكثير.

ففي القرن الرابع قبل الميلاد، أجبر معبد ديلوس على التخلي عن 80% من ديونه التي قدمها إلى 13 من أقاليم الإمبراطورية الإغريقية.

جموع المتظاهرين أمام البرلمان اليوناني في أثينا احتجاجا على خطة التقشف (الجزيرة)
جموع المتظاهرين أمام البرلمان اليوناني في أثينا احتجاجا على خطة التقشف (الجزيرة)

العلاقة مع أوروبا
من الناحية المالية، تراوحت العلاقة بين اليونان والدول الأوروبية الأقوى بين التوتر والريبة، والسنوات الأولى من عضوية اليونان في منطقة اليورو (حينما كانت قادرة على الاقتراض من الأسواق بمعدلات فائدة منخفضة تعادل المعدلات الممنوحة لألمانيا) كانت استثناء تاريخيا في تلك العلاقة. 

لكن المآسي السياسية والعسكرية أسهمت أيضا في ترسيخ إحساس اليونان بالغربة (هوية وثقافة) عن أوروبا.

فبعد وقوعها تحت احتلال ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، غرقت اليونان في حرب أهلية امتدت من العام 1946 حتى العام 1949، وهي حرب تحددت نتائجها كثيرا بفعل التدخل البريطاني والأميركي.

وبعد انهيار الحكم العسكري عام 1974 والذي امتد سبع سنين، انضمت اليونان للمجموعة الاقتصادية الأوروبية عام 1981 لا لشيء إلا لرغبة أعضاء المجموعة في ضم اليونان إلى ناديهم المزدهر والديمقراطي، أو لعلها (حسب الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكاردستان) مكافأة ورد دين لليونان بوصفها حجر الأساس في الثقافة الأوروبية.

وبعد أن تحولت المجموعة الاقتصادية الأوروبية إلى اتحاد أوروبي حازت اليونان سمعة مستحقة كعضو في النادي الجديد خاصة في عهد أندرياس باباندريوس رئيس الوزراء الاشتراكي الأسبق ووالد رئيس الوزراء الحالي.

لكن الأوضاع في اليونان لم تبدأ في التحسن إلا بعد أن أصبح مستوى المعيشة فيها مقاربا إلى حد كبير للمعايير الأوروبية بفضل المعونات المالية الأوروبية لها، وبعد أن تبنت اليورو عام 2001.

ولعل الجيل الحالي في اليونان (الأفضل تعليما والأكثر ترحالا) هو الجيل الأول الذي يرى نفسه بالفعل منتميا للهوية الأوروبية، وهذا هو الجيل الذي كان باباندريويس يعول عليه للتصويت بـ"نعم" في الاستفتاء الذي كان مقررا على مستقبل اليونان في الإطار الأوروبي.

المصدر : فايننشال تايمز