الشعبوية ووسائل الإعلام
كريس باتن*
أنا كبير في السن بما يكفي لكي أتذكر أن أفضل شيء كانت تتميز به الشعبوية هو أنها كانت لا تحظى بأي شعبية، حتى أولئك الناخبون الذين أحسوا بالقلق إزاء الهجرة، كانت اختياراتهم مبنية على القضايا الاقتصادية والاجتماعية.
اليوم، ومع ذلك، يبدو أننا نتجه نحو نوع مختلف من السياسة. الأمثلة الأكثر ذكرا هي تصويت المملكة المتحدة في العام الماضي لمغادرة الاتحاد الأوروبي وفوز دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، كما تقدم كل من بولندا والمجر أمثلة مثيرة للقلق عن السياسيين ذوي الخطاب القومي والشعبي لتعزيز الأهداف التي تفوح بالاستبداد الناشئ.
وبالطبع، هناك فرق بين استخدام النزعة القومية الفظة في الأنظمة الاستبدادية الفعلية، وفي الديمقراطيات. الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستخدمان القومية لتعزيز الدعم، تماما مثل ما قد يفعل الساسة الغربيون، لكن هؤلاء يمكنهم فعل أي شيء إلا تجاهل سيادة القانون.
يقوم الرئيس الصيني شي باعتقال منتقديه، أما بوتين فغالبا ما يقتل معارضيه. رغم ذلك، إذا كنتَ تثق بترمب، فالأجهزة الأمنية الروسية لا علاقة لها بهذا، وحتى لو فعلَت ذلك -كما أشار ترمب في مقابلة أجريت معه مؤخرا- فلا يوجد دليل لإدانتها، وقال ترمب إن "هناك الكثير من القتلة". "هل تعتقد أن (الولايات المتحدة) بريئة بالفعل؟".
سواء كانت الولايات المتحدة "بريئة" أم لا، فليس هناك من ينكر أن الرئيس الأميركي -على عكس نظيريه الروسي أو الصيني- يجب أن يعمل ضمن مجموعة من الترتيبات الدستورية ونظام قيم معينة، ولا يمكنه تنظيم أو التغاضي عن قتل المعارضين والمنتقدين. قد يحتقر "الرفيق" ترمب هذا النظام، لكنه لا يستطيع التخلص منه.
بالطبع، لا يعني هذا أن ترمب لن يحاول -عندما تتاح له الفرصة- فصل أولئك الذين يختلفون معه؛ ومن ناحية أخرى، يحاول تشويه أو إضعاف المعارضين من خلال الهجمات القاسية. على سبيل المثال، فقد أطلق وابلا من الانتقادات ضد القضاة والمحاكم التي حكمت ضد الأمر التنفيذي الذي يحظر دخول أي شخص من سبعة بلدان مسلمة للولايات المتحدة.
يصف ترمب أي تقارير منددة أو منتقدة لإدارته أو سياساته -حتى نشر النتائج السلبية لاستطلاع الرأي- بأنها "أخبار وهمية"، ويصف الصحفيين بأنهم "أدنى شكل من أشكال الحياة" |
حرب شعواء
كما شن ترمب حربا على وسائل الإعلام التي وصفها كبير الإستراتيجيين لديه ستيف بانون "بحزب المعارضة". ويصف ترمب أي تقارير منددة أو منتقدة لإدارته أو سياساته -حتى نشر النتائج السلبية لاستطلاع الرأي- بأنها "أخبار وهمية"، ويصف الصحفيين بأنهم "أدنى شكل من أشكال الحياة"، وقد لبس المشجعون في مسيرات ترمب قمصانا كتبت عليها عبارة "حبل. شجرة. صحفي".
هذا النهج ليس فريدا من نوعه بالنسبة لترمب، فقد قوضت الحكومتان البولندية والمجرية حرية الصحافة من خلال تقييد وصول الصحافة والإعلام إلى المسؤولين.
في الأنظمة السلطوية وشبه السلطوية، يُنظر لوسائل الإعلام دائما على أنها تهديد، إن لم تكن هدفا للقمع.
لكن وسائل الإعلام الأميركية لم تخضع لأوامر ترمب. في الواقع، أصبحت العديد من المنشورات -باستثناء الأبواق الرسمية، مثل فوكس نيوز لروبرت مردوخ– عبارة عن حراس للمؤسسات والقيم التي تقوم عليها الحرية، فهي متمسكة بالاعتقاد بأنه في قلب الديمقراطية الصحية والنشطة يجب أن يكون هناك حوار مدني يحترم المعرفة والحقيقة والخلاف والفوارق البسيطة.
هذا لا يعني أن الصحفيين يجب أن يبرروا وصف بانون لهم بالأحزاب المعارضة، بل ينبغي أن يستمروا في القيام بعملهم، ورفض "الحقائق البديلة" والبحث عن الحقيقة؛ ومثلما وجد الكاتب الإيطالي بريمو ليفي أن معرفته العلمية وخبرته ساعدته على التأقلم مع الحياة في ظل موسوليني وأوشفيتز، يجب على الصحفيين مواجهة الساسة المخادعين اليوم من خلال التزامهم بعملهم أكثر من أي وقت مضى.
وفي هذا الصدد، لدى الصحفيين البريطانيين الكثير لتعلمه من نظرائهم في الولايات المتحدة، فمنذ انتخابات بريكست، لم تبذل الصحف البريطانية أي جهود لمحاولة إنقاذ ديمقراطيتنا من اجتياح مشاعر الأغلبية. على العكس من ذلك، فإن معظم الصحف المطبوعة لدينا -وحتى واحدة من أكثر الصحف التقليدية لدينا، والتي كانت تعتبر نفسها صحيفة السجل- عززت التحيزات الشعبية، تماما كما فعلت فوكس نيوز في الولايات المتحدة.
هذه المجموعة -التي تضم عددا من الصحف، وإن كانت في تراجع مستمر- تعرّف "إرادة الشعب" بأنها إرادة أغلبية ضئيلة من الناخبين الذين يؤيدون ترك الاتحاد الأوروبي، نسوا ما يعنونه بذلك التصويت، ونسوا الـ48٪ الذين صوتوا للبقاء. وهم يوبخون أي شخص يثير تساؤلات عن كيفية تنفيذ هذه العملية التدميرية.
بينما تتحدث وسائل الإعلام الشعبوي في بريطانيا عن استعادة السيادة البرلمانية (رغم أنها لم تفقدها أبدا)، فإنها تدين أي عضو من أعضاء البرلمان يشكك في الطريق الذي تم من خلاله تأسيس البلاد إلى الآن. حتى إنهم هاجموا سيادة القانون الذي يتيح لهم الحريات ذاتها التي كانوا غالبا ما يسيئون إليها.
وعندما أصرت واحدة من أعلى المحاكم البريطانية على أن الحكومة ينبغي أن تتابع بريكست بطريقة مشروعة، تم اتهام القضاة بأنهم "أعداء الشعب". وقد أطلق ترمب نفسه مؤخرا تغريدة بالتعليق نفسه عن وسائل الإعلام الأميركية.
ينبغي أن تعتبر وسائل الإعلام ذلك وسام شرف وعربون عملهم الدؤوب لحماية المجتمع المدني من أسوأ التجاوزات الشعبوية. وعلى النقيض من ذلك في بريطانيا -حيث تتحدى وكالات الأنباء المهمة القيم ذاتها التي عززت لفترة طويلة صحة وحيوية ديمقراطيتنا- شيء قليل يقف بيننا وبين مستقبل أكثر شراسة وأقل ازدهارا.
———————-
*آخر حاكم بريطاني لهونغ كونغ، المفوض السابق للشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي. يشغل حاليا منصب رئيس جامعة أكسفورد.