الكأس المقدسة للهندسة الوراثية

الكأس المقدسة للهندسة الوراثية

أنطوان دانشين*

منذ ظهورها قبل أربعة عقود كانت الهندسة الوراثية مصدرا لآمال كبيرة على الصحة والزراعة والصناعة، ولكنها أثارت قلقا بالغا، ولا سيما بسبب الطبيعة الشاقة لعملية تحرير الجينوم، الآن هناك تقنية جديدة تدعى كريسبر-كاس تقدم الدقة والقدرة على تعديل نص الجينوم في عدة أماكن في وقت واحد، ولكن هذا ليس سببا كافيا للاطمئنان.

ويمكن اعتبار الجينوم نوعا من العلامة الموسيقية، ومثلما يخبر لوح الموسيقى الموسيقيين في أوركسترا متى وكيف يعزفون فإن الجينوم يخبر الأجزاء المكونة للخلية (البروتينات عموما) بما يجب عليها القيام به.

قد تشمل العلامة الموسيقية أيضا ملاحظات من الملحن -والتي تبين التغييرات الممكنة- كل ما يمكن أن يضاف أو يحذف تبعا للظروف، وبالنسبة للجينوم تظهر هذه "الملاحظات" من بقاء الخلايا على مدى أجيال عديدة في بيئة متغيرة باستمرار.

ويشبه البرنامج الجيني للحمض النووي كتابا هشا يمكن أن يتغير ترتيب صفحاته مع نقل بعضها إلى برنامج خلية أخرى، وإذا كانت الصفحة مغلفة فإنه لا يمكن أن تمزق إذا ما نقلت من مكان إلى آخر.

وبالمثل، فإن عناصر برنامج وراثي محمي بطبقة صلبة تكون أكثر قدرة على غزو مجموعة متنوعة من الخلايا ثم تتكاثر مع إعادة إنتاج الخلية.

وفي نهاية المطاف يصبح هذا العنصر فيروسا سريع الانتشار، وتكمن الخطوة التالية في الخلية التي تعيد إنتاج الفيروس، سواء كان حميدا أم خبيثا لتطوير بعض الطرق لمقاومته، وفي الواقع كانت هذه هي الطريقة -كدفاع البكتيريا ضد الفيروسات المنتشرة- التي ظهرت من خلالها تقنية كريسبر-كاس لأول مرة.

وبذلك تسمح هذه التقنية للخصائص المكتسبة بأن تصبح موروثة، وأثناء العدوى الأولى يتم نسخ جزء صغير من الجينوم الفيروسي -وهو بمثابة توقيع- إلى جزيرة كريسمر الجينومية (قطعة إضافية من الجينوم خارج نص الجينوم الأم)، ونتيجة لذلك يتم الاحتفاظ بذكرى العدوى عبر الأجيال، وعندما يصاب سليل الخلية بفيروس تتم مقارنة التسلسل بالجينوم الفيروسي، فإذا أصاب فيروس مماثل والدة الخلية فإن السليل سيتعرف عليه، والآلية المخصصة سوف تدمره.

لقد استغرقت هذه العملية المعقدة عدة عقود ليتمكن العلماء من حلها، لأنها تناقض النظريات القياسية للتطور، ولكن الآن اكتشف العلماء كيفية تكرار العملية وتمكين البشر من إعداد جينومات معينة بدقة كبيرة (الكأس المقدسة للهندسة الوراثية) لما يقرب من خمسين عاما.

بإمكان العلماء تطبيق آلية كريسبر-كاس لتصحيح المشاكل في الجينوم (بيكسابي)
بإمكان العلماء تطبيق آلية كريسبر-كاس لتصحيح المشاكل في الجينوم (بيكسابي)

تصحيح
وهذا يعني أنه بإمكان العلماء تطبيق آلية كريسبر-كاس لتصحيح المشاكل في الجينوم، أي ما يعادل الأخطاء المطبعية في نص مكتوب، فعلى سبيل المثال في حالة السرطان نود تدمير تلك الجينات التي تسمح بتكاثر الخلايا السرطانية، نحن مهتمون أيضا بإدخال الجينات في الخلايا التي لم تكتسبها قط من قبل النقل الجيني الطبيعي.

ليس هناك شيء جديد بشأن هذه الأهداف، ولكن مع كريسبر-كاس نحن على أتم استعداد لتحقيقها، وقد خلفت التقنيات السابقة آثارا في الجينومات المعدلة، وساهمت -على سبيل المثال- في مقاومة المضادات الحيوية.

وعلى النقيض من ذلك، فإن الطفرة التي حصلت عليها تقنية كريسبر-كاس لا يمكن تمييزها عن طفرة ظهرت بشكل عفوي، ولهذا قضت إدارة الغذاء والدواء الأميركية بأن هذه التركيبات لا تحتاج إلى وصفها بالكائنات المعدلة وراثيا.

كانت التقنيات السابقة متعبة خاصة عندما كانت هناك حاجة لتعديل العديد من الجينات، لأن العملية سوف تجرى بالتتابع، ومع كريسبر-كاس دعمت القدرة على إجراء تعديلات الجينوم في وقت واحد خلق الفطر والتفاح الذي لا يتأكسد أو يتحول لونه إلى بني عندما يلامس الهواء، وهي النتيجة التي تتطلب عدة جينات ليتم إبطال مفعولها في وقت واحد، ومثل هذا التفاح موجود بالفعل في السوق ولا يعتبر من الكائنات المعدلة وراثيا.

وهناك تطبيقات أخرى قيد التطوير، وإن ما يسمى إجراء المحرك الجيني للتحكم في الجينوم يمكن أن يقلل الضرر الناجم عن الحشرات التي تحمل المرض، كما أن التعديل المستهدف للأشجار في البعوض -الحيوان الأخطر على حياة الإنسان عالميا- سيجعله غير قادر على نقل الفيروس أو الطفيليات.

ولكن يجب أن يتم التعامل مع تطبيق كريسبر-كاس بعناية شديدة، في حين يمكن لهذه التكنولوجيا أن تكون بمثابة نعمة في مكافحة العديد من الأمراض القاتلة، لكنها تشمل أيضا مخاطر كبيرة وربما لا يمكن التنبؤ بها تماما، أولا: لأن الجينوم يتضاعف وينتشر مع التكاثر فإن تعديل السكان سوف يتطلب تعديلات لعدد محدود فقط من الأفراد، خاصة إذا كانت دورة حياة الكائن الحي قصيرة.

ثانيا: نظرا لانتشار التهجين في أوساط الأنواع المجاورة، فمن الممكن انتشار تعديل أنواع البعوض تدريجيا ودون أي رقابة على الأنواع الأخرى، ويظهر تحليل الجينومات الحيوانية أن مثل هذه الأحداث قد وقعت في الماضي مع غزو الأنواع من قبل العناصر الوراثية التي يمكن أن تؤثر على أرصدة النظم الإيكولوجية وتطور الأنواع (على الرغم من أنه من المستحيل معرفة كيف)، وإذا كان تعديل عدد من البعوض أمرا خطيرا فلا يمكن التنبؤ بما يمكن أن يحدث إذا ما عدلنا الخلايا البشرية -ولا سيما الخلايا الجرثومية (germ cells)- دون العناية اللازمة.

إن تكنولوجيا كريسبر-كاس على استعداد لتغيير العالم، ومن الضروري الآن ضمان أن تكون تلك التغييرات إيجابية.
_______________

* أستاذ فخري في كلية العلوم الطبية الحيوية بكلية الطب لي كا شينغ، جامعة هونغ كونغ، وأستاذ فخري ومستشار علمي أول في بنك الجينات الوطني الصيني.

المصدر : بروجيكت سينديكيت