مشكلة العقاقير الحقيقية في أميركا

أحد العيوب العظيمة التي تشوب نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة هو أن الأرباح قد توضع قبل البشر.

أكاش جويل* وبراشانت ياداف**

لا يستطيع أي طبيب أن ينسى أول مريض له مصاب بداء المقوسات، وهو عدوى طفيلية مروعة تصيب الأشخاص الذين يعانون من ضعف الجهاز المناعي، مثل مرضى نقص المناعة البشرية المكتسب (إيدز) في حالات متقدمة.

فبعد أن تصيب هذه العدوى أجهزة المريض ودماغه تتسبب في تبدل الحالة العقلية الذهنية والحمى والقشعريرة ونوبات صرع، وإذا تركت هذه العدوى بلا علاج فقد تؤدي إلى الموت في أقل من أسبوع واحد.

وكان العلاج المنقذ للحياة الذي يباع في الولايات المتحدة تحت اسم دارابريم "بيريميثامين" متاحا لأكثر من ستين عاما، ولكن تطورات أخيرة هددت بجعله باهظ التكلفة، ففي أغسطس/آب اشترت شركة تدعى تورينج للمستحضرات الصيدلانية حقوق تسويق هذا العقار وسرعان ما رفعت سعر الحبة الواحدة من 13.5 إلى 760 دولارا.

وفضلا عن إثارة المخاوف بشأن توفر هذا الدواء كشفت هذه الخطوة عن أحد العيوب العظيمة التي تشوب نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، حيث قد توضع الأرباح قبل البشر، وهذا هو ما يحدث غالبا.

وسرعان ما أصبح الرئيس التنفيذي لشركة تورينج مارتن شكريلي موضعا للانتقاد والذم في وسائل الإعلام -بما في ذلك مشاركة على الفيسبوك من قبل وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون– وجاء رده عنيدا متصلبا، ففي مشاركة على موقع تويتر وصف الصحفي بالمعتوه ووصف رفع السعر بأنه "قرار تجاري عظيم، ومن شأنه أن يعود بالفائدة على كل المساهمين في الشركة".

قد يتوقع أغلب الناس أن التعامل مع الأدوية المنقذة للحياة لا بد أن يكون مختلفا عن التعامل مع السلع الاستهلاكية مثل الهواتف الذكية أو السيارات، ولكن لا يوجد مثل هذا التمييز في الولايات المتحدة

منظور اقتصادي
من منظور اقتصادي بحت كان شكريلي محقا، ذلك أن البيريميثامين دواء خارج براءات الاختراع، ولكن تورينج هي الصانعة الوحيدة له، ولأن منحنى الطلب على الأدوية غير مرن على الإطلاق فإن رفع السعر بأكثر من 5000% وسيلة عقلانية لتعظيم الأرباح.

وبقدر ما يعد القرار الذي اتخذه شكريلي بغيضا مقيتا فإنه لا يتحمل المسؤولية عن المشكلة الحقيقية، ولا شركة تورينج كذلك، فهما لم يدونا قوانين الولايات المتحدة التي تسمح بالتلاعب بأسعار أدوية مثل الدارابريم.

قد يتوقع أغلب الناس أن التعامل مع الأدوية المنقذة للحياة لا بد أن يكون مختلفا عن التعامل مع السلع الاستهلاكية مثل الهواتف الذكية أو السيارات، ولكن لا يوجد مثل هذا التمييز في الولايات المتحدة، بل إنها الدولة المتقدمة الوحيدة التي تسمح للشركات المصنعة للأدوية بتحديد أسعار منتجاتها بنفسها.

وتنظم أغلب الدول الأوروبية أسعار الدواء إما بشكل مباشر أو غير مباشر على نحو أشبه بتنظيم أسعار الكهرباء والمياه في أسواق الولايات المتحدة، ففي المملكة المتحدة -على سبيل المثال- تتولى هيئة تنظيمية وهي المعهد الوطني للفعالية السريرية اتخاذ القرارات بشأن فعالية العقاقير من حيث التكلفة لتبرير التعويضات من قبل هيئة الصحة الوطنية.

فضلا عن ذلك، ولأن الولايات المتحدة ليس لديها نظام صحي تموله الحكومة فلا يستطيع أي دافع منفرد بالتأثير على قدرتها على المساومة لحملها على خفض أسعار الأدوية، وبدلا من ذلك يقوم نظام المساعدات الطبية "ميديك أيد" في كل ولاية -والذي يغطي الرعاية الصحية للفقراء- بشراء الأدوية التي تلزمه. ويُحظر على نظام الرعاية الطبية "ميدي كير" -الذي يوفر التغطية لمن هم فوق سن الـ65- التفاوض على الأسعار.

وقد أدى هذا -فضلا عن عوامل أخرى- إلى ارتفاع الأسعار في الولايات في العديد من الحالات إلى مستويات أعلى كثيرا من مثيلاتها في أغلب الدول المتقدمة الأخرى.

في أغلب الدول الأوروبية يتم تنظيم أسعار الدواء، إما بشكل مباشر أو غير مباشر

زيادة الأرباح
ويزعم البعض أن ارتفاع الأسعار يعكس حقيقة مفادها أن الولايات المتحدة تتحمل تكلفة علاوة الإبداع، ولكن في العديد من الحالات -وقرار شركة تورينج ليس سوى مثال صارخ- لا تعكس الأسعار العليا الاستثمارات في الإبداع، بل يمثل رفع الأسعار ببساطة أرباحا سائغة للشركات المصنعة الساعية إلى تحصيل الريع.

ولن يكون حل المشكلة سهلا، ذلك أن تقديم هيئة تنظيمية جديدة أو الانتقال إلى نظام الدافع الواحد من المرجح أن يكون مكلفا على المستوى البيروقراطي أو مستحيلا على المستوى السياسي، وفي كل الأحوال لا يخلو الأمر من عثرات في تمكين هيئة واحدة من تقرير قيمة الأدوية لدولة بأسرها.

وقد تستفيد مجموعات عديدة بشكل مختلف اعتمادا على عوامل مثل السن أو المكانة الاجتماعية الاقتصادية، وحتى مع ذلك يمكن اتخاذ بضع خطوات بسيطة لمنع التلاعب بالأسعار مع الحفاظ على الحافز للإبداع في الوقت نفسه.

والواقع أن الدارابريم متاح على نطاق واسع وبأسعار زهيدة كدواء لا يحمل علامة تجارية في أسواق أخرى، بما في ذلك المملكة المتحدة والهند والبرازيل، ولكن في الولايات المتحدة تطلب الأمر صخبا كبيرا بشأن الأسعار التي رفعتها شركة تورينج قبل أن تعلن شركة منافسة أنها تعتزم إنتاج بديل بسعر دولار واحد للحبة.

ولأن عدد وصفات بيريميثامين لا يتجاوز 13 ألفا سنويا فإن مصنعي الدواء لم يكن لديهم الحافز المالي لتحمل عناء المرور عبر عملية التقدم بالطلب لإدارة الغذاء والدواء الأميركية للحصول على الموافقة التنظيمية.

وعلاوة على ذلك، فإن تراكم أكثر من أربعة آلاف طلب لدى إدارة الغذاء والدواء للموافقة على أدوية غير مسجلة الملكية يعني أن الموافقة قد تستغرق أكثر من عامين.

وتعد ضمانات الحجم إحدى الوسائل لتحفيز المنافسة وفرض ضغوط هابطة على الأسعار في مثل هذه الأسواق المتخصصة، وقد استخدم هذا النهج بنجاح مع علاجات الإيدز عندما جمّع المانحون الموارد اللازمة لشراء الدواء لصالح البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل من أجل خلق سقوف للأسعار.

لا ينبغي للقدرة على الوصول إلى الأدوية المنقذة للحياة أن تعتمد على مدى خيرية أي شخص، بل ينبغي لنا أن نعمل على إدماج الممارسات والسياسات التي تحمي مصالح المرضى في مؤسساتنا

سبل جديدة
وفي الولايات المتحدة هناك عدد قليل من الجهات العامة الكبيرة الدافعة -مثل ميديكير وميديك أيد- التي يمكن تفويضها بتوفير ضمانات الحجم الإجمالي، وهو ما من شأنه أن يوفر الحافز للقادمين الجدد، والسبب للشركات المصنعة القائمة للإبقاء على الأسعار تحت السيطرة.

وتتلخص طريقة أخرى لجعل الأسواق المتخصصة أكثر جاذبية في قسائم مراجعة الأولوية، والتي تعد المصنعين بعملية استعراض سريعة لأحد أدويتهم.

وبالفعل، تكافئ إدارة الغذاء والدواء الشركات التي تعمل في تصنيع أدوية جديدة لعلاج اضطرابات نادرة بين الأطفال، وبوسعها أن تفعل نفس الشيء مع الأدوية غير المسجلة الملكية والتي لا تطرح في سوق كبير.

الواقع أن محاولة شركة تورينج تحقيق الربح على حساب أولئك الذين يعانون من فيروس الإيدز أظهرت بوضوح أن الهيئات التنظيمية والشركات المصنعة لا بد أن تستكشف سبلا جديدة لإدارة هذه المسألة.

ولا ينبغي للقدرة على الوصول إلى الأدوية المنقذة للحياة أن تعتمد على مدى خيرية أي شخص، بل ينبغي لنا أن نعمل على إدماج الممارسات والسياسات التي تحمي مصالح المرضى في مؤسساتنا.
_______________
* طبيب وصحفي، وهو مطور للعالم لدى المنتدى الاقتصادي العالمي.
** مدير أبحاث الرعاية الصحية في معهد ويليام ديفدسون بجامعة ميشيغان، وأحد أعضاء هيئة التدريس في مدرسة روس لإدارة الأعمال ومدرسة الصحة العامة بجامعة ميشيغان.

المصدر : بروجيكت سينديكيت