تخفيض حصة كردستان العراق من الميزانية

"في ظل العجز المالي المزمن وتزايد الإنفاق العسكري أصبح إقليم كردستان عبئاً ثقيلا على ميزانية العراق"

صباح نعوش 

منذ الاحتلال الأميركي وحتى استفتاء انفصال إقليم كردستان العراق تقررت للأكراد حصة مالية قدرها 17%، أي أعلى من حجمهم السكاني.

وتحت ظل العجز المالي المزمن، وتزايد الإنفاق العسكري، أصبح إقليم كردستان عبئاً ثقيلا على ميزانية العراق، وبسبب تغير موازين القوى في الثلث الأخير من السنة الماضية، الذي أفضى إلى إعادة السيطرة على كركوك وحقولها النفطية، قررت الحكومة المركزية بإرادتها المنفردة تخفيض هذه الحصة إلى 12.6%؛ الأمر الذي أثار سخط الجانب الكردي.

التداعيات المالية
تحدد حصة إقليم كردستان بنسبة معينة من الإنفاق العام بعد استبعاد المصروفات السيادية (وزارات الدفاع والداخلية والخارجية وغيرها) والحاكمة (الحصة التموينية واعتمادات الأدوية وغيرها).

وفي عام 2018، بلغت النفقات العامة أكثر من 104 تريليونات دينار (ما يعادل 88 مليار دولار)، وحجم تلك المصروفات والمبالغ أكثر من 541 تريليون دينار (45 مليار دولار).

ولما كانت النسبة المقررة للإقليم 12.6% فإن حصة الإقليم تعادل نحو 630 تريليون دينار، بمعنى أن حصة الإقليم لا تتوقف فقط على عدد السكان، بل كذلك على تقديرات الحكومة المركزية للنفقات السيادية؛ فكلما زادت هذه النفقات انخفضت إيرادات الأكراد.

وعبر الأكراد عن استيائهم الشديد من هذا التخفيض الذي يمثل خسارة فادحة قدرها أكثر من 458 تريليون دينار.

فقد أصدرت اللجنة المالية في برلمان كردستان العراق بيانا ينص على ما يلي: "إذا لم توافق بغداد على دفع 17% من الموازنة لإقليم كردستان فيجب على الإقليم التمسك بأن تكون النسبة 12.6% من مجموع إيرادات العراق دون استقطاع النفقات السيادية منها".

إن هذا الموقف مبهم، وما جاء فيه غير قابل للتطبيق؛ فإذا كانت بغداد لا توافق على 17% من الإنفاق العام بعد طرح المصاريف السيادية والحاكمة فهي ترفض من باب أولى منح 12.6% من الإيرادات العامة دون استقطاع تلك المصاريف، لأن المبلغ الناجم عن النسبة الثانية أعلى من المبلغ الناجم عن النسبة الأولى.

إذ إن 17% من النفقات الكلية بعد طرح تلك المصروفات تعادل أكثر من 850 تريليونات دينار، في حين أن 12.6% من الإيرادات العامة تعادل 115.47 تريليون دينار، فقد كان من الأجدى على اللجنة الكردية أن تستخدم عبارة "الإيرادات النفطية العراقية" بدلا من عبارة "مجموع إيرادات العراق". عندئذ تحاول كسب الدول الكبرى المؤثرة على القرار العراقي.

فقد سبق لهذه الدول أن خصصت عن طريق مجلس الأمن 13% من الإيرادات النفطية لإقليم كردستان خلال فترة الحصار الاقتصادي في التسعينيات من القرن المنصرم.

وإن طبقت هذه الآلية، فسوف يحصل الإقليم على 100.23 تريليون دينار أي أعلى من 17% من الإنفاق العام بعد طرح المصروفات المذكورة.

وبسبب التطورات العسكرية، لم يعد الضغط الكردي على الحكومة العراقية مجديا، ولم تعد القرارات تتخذ بالتوافق؛ فقد اقترح الأكراد في الأسابيع الماضية خفض حصتهم إلى 14% ولكن دون جدوى، بل إن مجلس النواب أقر الميزانية الاتحادية رغم غياب واستياء النواب الأكراد.

ترى لماذا تصر بغداد على تعقيد الأمور باحتساب الحصة انطلاقاً من النفقات العامة بعد طرح المصاريف السيادية؟

تسمح هذه الطريقة للحكومة المركزية بالتصرف بأموال تعادل 51.9% من الإنفاق العام في حالة حصول كل محافظة عراقية على حصتها وفق عدد سكانها، وهذا لم يحدث إطلاقا.

في حين لو وزعت إيرادات النفط على المحافظات حسب عدد السكان لأصبحت حصة الحكومة المركزية مقتصرة على الضرائب والرسوم البالغة 13.8% فقط من الإنفاق العام.

عندئذ تصبح إيرادات الحكومة المركزية اللازمة للقيام بمهامها الدفاعية والأمنية والاقتصادية عبارة عن مساهمات مالية تقدمها المحافظات.

وهذا التنظيم ينسجم مع المادة الأولى من الدستور العراقي التي تنص على أن جمهورية العراق دولة اتحادية.

ويتفق كذلك مع المادة 112 منه التي تتناول توزيع إيرادات النفط والغاز الطبيعي (وليست النفقات العامة) على المحافظات وفق معيار السكان، لكن هذا التنظيم لم يطبق لأنه يصطدم برغبة القوى الحاكمة.

‪نعوش: الحكومة العراقية ليست لديها معلومات دقيقة حول حجم الصادرات النفطية الكردية‬  نعوش: الحكومة العراقية ليست لديها معلومات دقيقة حول حجم الصادرات النفطية الكردية (رويترز)
‪نعوش: الحكومة العراقية ليست لديها معلومات دقيقة حول حجم الصادرات النفطية الكردية‬  نعوش: الحكومة العراقية ليست لديها معلومات دقيقة حول حجم الصادرات النفطية الكردية (رويترز)

مشكلة المرتبات
قدم إقليم كردستان وثيقة إلى الحكومة العراقية تشير إلى أن عدد الموظفين فيه من المدنيين والعسكريين يبلغ 1.4 مليون شخص، يتقاضون مرتبات قدرها 887 مليار دينار في الشهر.

لكن الحكومة المركزية لم تعتد بهذه التقديرات، إذ إن عدد الموظفين لديها يبلغ أربعة ملايين شخص.
أي من غير المنطقي أن يمثل الموظفون الأكراد 34% من الموظفين العراقيين.

كما قدر الحجم الكلي للمرتبات في ميزانية 2018 بمبلغ 35.9 تريليون دينار، أي من غير المنطقي أيضاً أن يطالب الأكراد بنسبة 29% من هذه المخصصات.

وتعتمد بغداد في تقدير هذه النسبة أو تلك على العامل السكاني نظرا لغياب المعلومات الدقيقة حول عدد الموظفين الفعليين في الإقليم.

لذلك، وبعد تأخير استمر عدة أشهر، صرفت الحكومة الاتحادية مؤخرا 317 مليار دينار. ولا يعادل هذا المبلغ سوى ثلث المطالب الكردية.

ويرتبط هذا الوضع بالنفط من جانبين:

الجانب الأول: لم تمنح الحكومة العراقية هذا المبلغ إلا بعد موافقة الأكراد على تسليم 250 ألف برميل من النفط يوميا للحكومة المركزية عن طريق شركة سومو.

الجانب الثاني: ترى بغداد أن الإقليم حصل في الفترة الأخيرة على إيرادات مهمة من صادراته النفطية بسبب تحسن أسعار الخام، وبالتالي يتعين عليه -إذا أراد زيادة مرتبات موظفيه- أن يدفع لهم من هذه الإيرادات.

تجدر الإشارة إلى أن الحكومة العراقية ليست لديها معلومات دقيقة حول حجم الصادرات النفطية الكردية وسعر مبيعات الخامات الكردية، أو أنها تستثمر تظاهرها بتجاهل هذه المعلومات لتقليص المرتبات.

إن الخلافات حول الرواتب في كردستان صورة من صور الخلافات حول المشكلة الأساسية، وهي الحصة المقررة للإقليم، ولتأخر صرف المرتبات علاقة بالاستفتاء من جهة وبالوضع المالي العام المتردي من جهة أخرى، ويترتب على ذلك ضرورة إعادة النظر في المستقبل القريب بكيفية تحديد هذه الحصة.

الخلافات حول الرواتب في كردستان صورة من صور الخلافات حول المشكلة الأساسية وهي الحصة المقررة للإقليم، ولتأخر صرف المرتبات علاقة بالاستفتاء من جهة وبالوضع المالي العام المتردي من جهة أخرى

الحلول المستقبلية
وإثر الموقف الإقليمي والدولي المناهض لإقامة دولة كردية وعودة "المناطق المتنازع عليها" خاصة كركوك إلى سيطرة الحكومة المركزية وكذلك انقسام البيت الكردي؛ ضعفت الجبهة الكردية، وما سيترتب على ذلك من إعادة النظر في كيفية حساب حصة الأكراد في الأموال العامة.

وفي ما يلي ثلاثة حلول مستقبلية ممكنة أمام السلطة المركزية:

الحل الأول: النسبة المقررة حاليا، يتكون إقليم كردستان من أربيل والسليمانية ودهوك، ويحصل على 12.6%.

الحل الثاني: انفصال السليمانية بسبب الخلافات الكردية البينية، ويمكن تنظيم استفتاء في هذه المحافظة للانفصال عن الإقليم، عندئذ يصبح إقليم كردستان مكونا من محافظتين فقط هما أربيل ودهوك وعدد سكانه 8.2% من سكان العراق، أي أنها حصته من الأموال العامة.

بطبيعة الحال ينبغي حساب النسبة في هذه الحالة وفي الحالة السابقة بعد طرح المصروفات المذكورة أعلاه.

الحل الثالث: الآلية العادية، فيخضع إقليم كردستان (مثلما كان شكله) للآلية المطبقة على بقية المحافظات؛ بمعنى أن حصة إقليم كردستان متغيرة تقرر سنويا من قبل مجلس الوزراء وفق ما يراه مناسبا لسياسته العامة والإمكانات المالية.

مما لا شك فيه أن السلطة المركزية تميل إلى الحل الثالث دون إهمال الثاني، لكنها طبقت الحل الأول في المرحلة الحالية.

أما الأكراد فهم يعارضون جميع هذه الحلول؛ فالحل الأول يخالف التوافقات السياسية، ويسبب عدة مشاكل اقتصادية وفي مقدمتها ارتفاع الأسعار وتفاقم البطالة.

والحل الثاني يخالف صراحة الدستور الكردي الذي يمنع في الفقرة الثالثة من مادته الثانية تأسيس كيان جديد داخل إقليم كردستان، والحل الثالث يلغي عمليا هذا الإقليم.

لكن الحكومة المركزية غير آبهة بهذه المعارضة بسبب سيطرتها العسكرية التي تنسجم مع المصالح الإيرانية والتركية.

لا بد من التركيز على الأولويات المتمثلة في معالجة أزمة الفقر والبطالة، وإيجاد حل سريع ومناسب للنازحين، وإعادة بناء ما خربته الحرب الأهلية، وأن يتم الصرف في جميع الحالات بغض النظر عن المؤشر السكاني

أما الولايات المتحدة فقد صرحت مؤخرا بضرورة إيجاد اتفاق بين الجانبين، لكن الموقف الأميركي لا يمثل شرطا سياسيا، بل نصيحة استثمارية مقدمة للحكومة العراقية التي كانت تتطلع للحصول على أكبر قدر ممكن من الأموال في مؤتمر الكويت للمانحين المنعقد في منتصف فبراير/شباط المنصرم.

إن توزيع الأموال العامة حسب المعيار السكاني منصوص عليه في الدستور العراقي الحالي.

علما بأن هذا التنظيم غير معروف في الدساتير العراقية السابقة، ولا ينسجم مع السياسة الاقتصادية السليمة، بل يعبر عن طريقة بدائية في التوزيع.

فهنالك معايير أخرى مهمة كحجم المحافظة ومدى حاجتها في وقت ما للأموال؛ فمساحة الأنبار تعادل عشرين مرة مساحة دهوك، والأولى تفوق الثانية من حيث عدد السكان، ومع ذلك تحصل محافظة دهوك من ميزانية الدولة على إيرادات تعادل على الأقل خمسة أضعاف محافظة الأنبار.

ناهيك عن تدمير البنية التحتية الأنبارية؛ الأمر الذي يتطلب رصد الأموال لإعادة البناء وفق التضامن الوطني دون النظر إلى العامل السكاني، وهذا ينطبق على الموصل أيضا.

إن توزيع الأموال المبني على عدد السكان حتى وإن طبق بصورة عادلة لا يحقق المصلحة العامة ويعكس عجز السياسة الاقتصادية عن معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة التي يعاني منها الشعب العراقي.

وعلى هذا الأساس، لا بد من التركيز على الأولويات المتمثلة في معالجة أزمة الفقر والبطالة، وإيجاد حل سريع ومناسب للنازحين، وإعادة بناء ما خربته الحرب الأهلية، وأن يتم الصرف في جميع الحالات بغض النظر عن المؤشر السكاني.

_______________

باحث اقتصادي عراقي

المصدر : الجزيرة