حقيقة خروج روسيا من أزمتها الاقتصادية

سامر إلياس سادت موجة من التفاؤل عقب إعلان صندوق النقد الدولي خروج روسيا من الركود بعد سنتين صعبتين

سامر إلياس*

الخروج من الركود
الإجراءات الحكومية والنفط يرفعان النمو
مخاطر على المديين المتوسط والبعيد
مشكلات الاقتصاد الروسي الهيكلية
إستراتيجيات متضاربة في ظل انتخابات رئاسية
في انتظار القرار الصعب

أثلجت أحدث المؤشرات والتوقعات الاقتصادية صدور المسؤولين الروس، وسادت موجة من التفاؤل عقب إعلان صندوق النقد الدولي خروج روسيا من الركود بعد سنتين عصيبتين.

ورغم تحسن المناخ العام فإن الاقتصاد الروسي يقف أمام مفترق حرج، فالآفاق على المديين المتوسط والبعيد ما زالت قاتمة، ويقف الكرملين أمام اختيار صعب بين إستراتيجيات اقتصادية تصل حد التضارب قبل نحو عام من الانتخابات الرئاسية المقبلة، مما أجّل -حسب أوساط مطلعة في موسكو– عقد اللقاء المباشر للرئيس فلاديمير بوتين الذي درجت العادة على تنظيمه سنويا في أبريل/نيسان، ويعرض فيه إنجازاته ويجيب على أسئلة الصحفيين والمواطنين من جميع أنحاء روسيا.

سعر العملة الروسية الروبل تعافى بعد انهيارها في خريف 2014 (الأوروبية-أرشيف)
سعر العملة الروسية الروبل تعافى بعد انهيارها في خريف 2014 (الأوروبية-أرشيف)

الخروج من الركود
ورفع صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو الاقتصاد الروسي في العام الحالي في تقرير مايو/أيار الحالي إلى 1.4%، من 1.1% في توقعات أكتوبر/تشرين الأول 2016.

وأشار تقرير الصندوق إلى أن تيسير الأوضاع المالية وارتفاع أسعار النفط سيساهمان في تعافي الاقتصاد، مادحا السياسات "الفعالة" التي انتهجتها الحكومة الروسية وخطتها لمواجهة الأزمة، مما أدى إلى تعافي اقتصاد البلاد وخروجه من الركود بسرعة، وموضحا أن امتلاك روسيا احتياطيات نقدية قوية من العملات الأجنبية ساهم في تخفيف آثار الأزمة.

وقال التقرير إن التضخم يتراجع ويقترب من هدف المصرف المركزي الروسي بضبط التضخم عند 4% في العام الحالي، بسبب زيادة قوة الروبل وتراجع الطلب على الاستهلاك في البلاد.

وتزامن تقرير صندوق النقد مع بيانات صادرة عن هيئة الإحصاء الروسية "روس ستات" تؤكد تراجع معدلات البطالة وهبوط التضخم في أبريل/نيسان الماضي، إضافة إلى زيادة الأجور الحقيقية بنحو 2.5% على أساس سنوي. وكشفت الهيئة عن زيادة في الاستثمارات الرئيسية في الربع الأول من العام الحالي بنحو 2.3% على أساس سنوي، مقارنة بانخفاض 1.2% في الفترة ذاتها من العام الماضي.

ومن المؤشرات المبشرة مع تحسن المزاج العام وخفض سعر الفائدة ورفع الحظر تدريجيا عن البضائع التركية، توقف الهبوط في تجارة التجزئة للمرة الأولى منذ نهاية 2014، وتحسن أوضاع قطاع البناء.

الإجراءات الحكومية والنفط يرفعان النمو
ويعود الفضل في الخروج من الأزمة الحالية بسرعة نسبية مقارنة بالأزمات السابقة، إلى عدة أسباب أهمها: ارتفاع أسعار النفط بعد الاتفاق التاريخي بين أوبك والمنتجين الأساسيين خارجها -وأهمهم روسيا- على خفض الإنتاج، مع التزام شبه كامل من الطرفين بالاتفاق وتوافق على تمديده، مما أسهم في ارتفاع إيرادات الخزينة الروسية من عائدات النفط والغاز التي قدرت في العام الماضي بنحو 105.3 مليارات دولار.

الاحتياطات المتراكمة من الذهب والعملات الأجنبية لعبت دورا كبيرا كوسادة أمان للتخفيف من تبعات العقوبات وهبوط النفط، والتسريع بالخروج من الأزمة

وأدت زيادة الإيرادات من الخامات إلى تراجع عجز الموازنة ودعم الروبل. كما لعبت عودة العلاقات التجارية مع تركيا دورا مهما في خفض التضخم وزيادة الاستهلاك. ويجب عدم إسقاط تأثير استضافة روسيا للمونديال 2018 والاستثمارات التي ضخت في بناء الملاعب وتطوير البنية التحتية.

ولا يمكن إنكار الجهود الكبيرة لصناع السياسة المالية والنقدية في موسكو، فالمصرف المركزي الروسي انطلق من ضرورة المحافظة على استقرار الاقتصاد الكلي وخفض معدلات التضخم لتوفير الظروف المناسبة لنمو طويل الأجل على حساب تحقيق نمو اقتصادي سريع.

ورفع المصرف سعر الفائدة إلى معدل قياسي (17%) إثر انهيار الروبل في خريف 2014، وخفضها تدريجيا ضمن سياسة محافظة جدا. وكان آخر خفض بنحو نصف نقطة مئوية في أبريل/نيسان الماضي، ليصل سعر الفائدة إلى 9.25%.

في المقابل ضخ المصرف المركزي الأموال اللازمة لضمان استقرار القطاع المصرفي الأكثر حساسية في روسيا، وحافظ على سياسة سعر صرف عائم للروبل، مع تدخلات طفيفة. ومع ارتفاع أسعار النفط استأنف المصرف شراء العملات الأجنبية لزيادة مدخراته. ولعبت الاحتياطيات المتراكمة من الذهب والعملات الأجنبية دورا كبيرا كوسادة أمان للتخفيف من تبعات العقوبات وهبوط النفط، والتسريع بالخروج من الأزمة الحالية.

وفي العامين الماضيين لجأت الحكومة إلى تقليص مصروفات الموازنة، وحققت نجاحا محدودا في موضوع استبدال الواردات بعد فرض العقوبات الغربية، فقد ساهمت السياسة الحكومية في زيادة الإنتاج المحلي في بعض الصناعات التحويلية، إضافة إلى تعزيز إنتاج بعض المنتجات الزراعية واللحوم. وربما كان ارتفاع سعر المنتجات الأجنبية على خلفية انهيار الروبل سببا في زيادة القدرة التنافسية للمنتج الروسي المحلي.

توقعات صندوق النقد تشير إلى نمو روسي لا يتجاوز 1.5% في السنوات المقبلة (رويترز)
توقعات صندوق النقد تشير إلى نمو روسي لا يتجاوز 1.5% في السنوات المقبلة (رويترز)

 مخاطر على المديين المتوسط والبعيد
في مقابل امتداح صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير إجراءات الحكومة للخروج من الأزمة، حذر خبراء الصندوق من أن آفاق الاقتصاد الروسي على المدى المتوسط تظل ضعيفة، وتوقعوا نموا اقتصاديا لا يتجاوز 1.5% في السنوات المقبلة.

ويعاني الاقتصاد الروسي على المديين المتوسط والبعيد من مشكلات كثيرة، فالظروف الدولية واستمرار العقوبات الغربية المفروضة على المؤسسات الروسية تقيد الوصول إلى مصادر التمويل بأسعار فائدة منخفضة.

ورغم تحسن أسعار النفط فإنه لا توجد ضمانات بأن الأسعار ستحافظ على ارتفاعها، فالأمر رهن بالالتزام بتنفيذ القرارات المتفق عليها بين أوبك والمنتجين المستقلين من جهة، واحتمال زيادة الإنتاج الأميركي أو خفض المخزونات الإستراتيجية الأميركية من جهة أخرى، مما قد يتسبب في انهيار الأسعار، وكذلك معدلات النمو في الاقتصاد العالمي، وفي الصين على وجه الخصوص.

كما أن الانتخابات الرئاسية العام المقبل تفرض على الحكومة تمويل بعض المشروعات وزيادة الدعم الاجتماعي للمتقاعدين وشرائح عدة من أجل ضمان التصويت وحصول بوتين على أكبر نسبة ممكنة في الانتخابات التي يرجح أن تكون الأخيرة في حياته السياسية.

وداخليا فإن الشركات النفطية الروسية تواصل تنفيذ التزامات الحكومة الروسية بخفض الإنتاج، لكنها لن تستطيع الصمود طويلا بسبب اقتراب افتتاح مشروعات كبيرة في شرق سيبيريا وحوض بحر قزوين. كما لا تستطيع هذه الشركات تحمل مزيد من الخسائر بسبب زيادة سعر صرف الروبل (الشركات تنفق بالروبل، وتجني مبيعاتها بالدولار).

مشكلات الاقتصاد الروسي الهيكلية
ويرزح الاقتصاد الروسي تحت ثقل مشكلات هيكلية كثيرة، إذ يعتمد اعتمادا مفرطا على عائدات الطاقة والخامات. كما أنه يتصف بحساسية مفرطة تجاه المؤثرات الخارجية، فالاعتماد على صادرات الخامات ورأس المال المضارب في الأسواق المالية يدخل الاقتصاد المحلي في أزمات عميقة يتأخر في الخروج منها.

تعاني روسيا من الفساد الإداري وانتشار الرشوة بشكل واسع، وعدم ضخ استثمارات كافية في قطاعات الاقتصاد الحقيقي

ومن أهم المشكلات الهيكلية ضعف التنافس في الاقتصاد في ظل هيمنة الشركات الكبرى، وارتفاع حصة الدولة في الاقتصاد، والتخلف التقني، إذ لا توجد أي شركة روسية في مجال التقنيات والصناعة ضمن قائمة الشركات الرائدة عالميا. وتفتقر روسيا إلى المؤسسات القوية، وغياب التنافس السياسي، وعدم وجود قاعدة قانونية لحماية الملكية الفكرية.

كما تعاني روسيا من الفساد الإداري وانتشار الرشوة بشكل واسع وعدم ضخ استثمارات كافية في قطاعات الاقتصاد الحقيقي، وكذلك ضعف إنتاجية العمل كثيرا مقارنة بالدول الغربية.

وتهدد الأزمة الديمغرافية الحادة الاقتصاد في ظل زيادة أعداد المتقاعدين عن الداخلين إلى سوق العمل. وحسب توقعات هيئة الإحصاء الروسية فإن عدد السكان سينخفض إلى 147.9 و146.9 مليونا عامي 2030 و2036 على التوالي، وينخفض عدد القادرين على العمل إلى 79 و78.7 مليونا في العامين المذكورين.

الإجراءات الاقتصادية الصعبة مستبعدة قبل الانتخابات الرئاسية (غيتي)
الإجراءات الاقتصادية الصعبة مستبعدة قبل الانتخابات الرئاسية (غيتي)

إستراتيجيات متضاربة في ظل انتخابات رئاسية
وتعطي البيانات والتوقعات الحديثة دفعا قويا للكرملين والحكومة. وفي المقابل فإنه يصعب على النخب الحاكمة تبني سياسات تقشفية، أو تبني إجراءات ضرورية لدعم النمو لا تحظى بشعبية قبل الانتخابات الرئاسية. ويؤجل بوتين طرح إستراتيجية اقتصادية واضحة وبرنامج طويل الأمد لحل المشكلات الهيكلية في الاقتصاد.

وفي الوقت الراهن تعكف أربع جهات على صياغة إستراتيجية اقتصادية تكون أساسا لعمل الحكومة في غضون السنوات العشرين القادمة، وتحقيق رغبة بوتين في الوصول إلى معدلات نمو تفوق نظيراتها العالمية، أي أكثر من 3.5% سنويا.

واللافت أن هذه الإستراتيجيات تختلف لتصل حد التضارب في عدة قضايا تحدد شكل الاقتصاد الروسي ومستقبله، وإن كانت تتفق في الشعارات العامة.

فإستراتيجية الحكومة حتى العام 2035 التي قدمها رئيس الوزراء ديمتري مدفيدف منذ أيام للرئيس بوتين تتضمن خطة عمل الحكومة لمنع تكرار الأزمات الاقتصادية، وخلق الظروف الاقتصادية للعمل، وزيادة الإنتاجية، وتأمين الاستقرار الكلي، وإصلاح النظام الضريبي، وبناء اقتصاد "ذكي" يعتمد على العلم، وزيادة الاستثمار في رأس المال البشري، وتطوير الموارد البشرية، بينما تخفض في الوقت ذاته حصة التعليم والصحة في الموازنة.

ومنذ نهاية فبراير/شباط الماضي نشرت مجموعة "نادي ستالبينس" المكلفة من قبل بوتين "إستراتيجية النمو"، وتتضمن زيادة القروض الطويلة الأجل وخفض سعر الفائدة، والمحافظة على سعر صرف منخفض للروبل، ودعم القروض العقارية لتشجيع الطلب، ودعم قطاع الأعمال، وتجميد أسعار خدمات الكهرباء والماء لمدة سنتين على الأقل.

واضح أن المخاطر المحدقة بالاقتصاد الروسي على المديين المتوسط والبعيد تتطلب قرارات حاسمة ربما يقرر بوتين تأجيلها إلى ما بعد انتخابه

وأما الخطة الثالثة فيعكف على إعدادها سيرغي غلازيف المستشار الاقتصادي للرئيس وتقترب من الخطة السابقة، وتدعو إلى ضخ الدولة المزيد من الأموال في القطاعات المختلفة، وعدم التخوف من ارتفاع التضخم بسبب زيادة الكتلة النقدية.

ويرى غلازيف -الأقرب إلى التيار القومي المتشدد والمدعوم من قبل أوساط في مجلس الأمن الروسي- أن روسيا يجب ألا تصر على الاندماج في الاقتصاد العالمي، وأن تلتفت إلى بناء صناعاتها وأنظمتها المالية ذاتيا.

وأخيرا، يدور الجدل حول الخطة الرابعة التي نشر بعض تفاصيلها ألكسي كودرين وزير المالية السابق ورئيس مركز الدراسات الإستراتيجية الحالي والمكلف من بوتين بإعدادها.

وتنطلق الخطة من أن بوتين يجب أن يستغل شعبيته من أجل القيام بإصلاحات غير مقبولة شعبيا، وتتضمن تحقيق تنمية اقتصادية عبر دمج روسيا أكثر في البرامج الدولية، وإصلاح النظام القضائي، والتخفيف من حجم الجهاز البيروقراطي في الدولة، ومنح القطاع الخاص حرية أكبر. وتعرضت الخطة لانتقادات جمة بسبب تركيزها على رفع السن التقاعدي من 55 و60 عاما للنساء والرجال حاليا، إلى 63 و65 عاما على التوالي لمواجهة الأزمة الديمغرافية وتقليص حجم المعاشات التقاعدية في الموازنة.

بوتين سيخوض الانتخابات المقبلة التي يفترض أن تكون الأخيرة في حياته السياسية (الأوروبية)
بوتين سيخوض الانتخابات المقبلة التي يفترض أن تكون الأخيرة في حياته السياسية (الأوروبية)

في انتظار القرار الصعب
لا يستطيع الرئيس بوتين الانتظار طويلا في طرح برنامجه الاقتصادي لفترته الرئاسية المقبلة. وواضح أن المخاطر المحدقة بالاقتصاد الروسي على المديين المتوسط والبعيد تتطلب قرارات حاسمة ربما يقرر بوتين تأجيلها إلى ما بعد انتخابه.

وقد يلجأ بوتين إلى اجتزاء شعارات من الخطط المختلفة في حملته الانتخابية. ومؤكد أن الأوضاع تحتم على الكرملين اختيار نهج يقوي براعم النمو التي ظهرت، ويضمن تنمية مستدامة وتحقيق معدلات نمو مرتفعة، وكذلك بناء اقتصاد أكثر مناعة تجاه المؤثرات الخارجية وأقل اعتمادا على صادرات الخامات، وخاصة النفط والغاز.

وفي الاتحاد السوفياتي السابق تعوّد المواطنون على عدم الالتفات إلى الخطط الخمسية للمكتب السياسي للحزب الشيوعي ومجلس السوفيات الأعلى لأنها عادة ما تظل حبرا على ورق.

وفي روسيا خضعت خطة 2020 التي أعدها كل من كودرين وغيرمان غريف وزير التنمية الاقتصادية الأسبق ورئيس مصرف "سبيربانك" الحالي لتعديلات كثيرة نتيجة الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 أفقدتها جوهرها.

ويبقى السؤال المطروح: هل سيسعى بوتين لتنفيذ خطة اقتصادية تكون خير خاتمة لحياته السياسية، أم أن روسيا لن تجد في عهده طريقها إلى إصلاحات تؤهلها لمركز عالمي متقدم في مجال الاقتصاد والتنمية المستدامة يتناسب وإمكاناتها الكبيرة؟
____________________
* كاتب متخصص في الشؤون الروسية

المصدر : الجزيرة