اليونان… بين المطرقة والسندان

عانت اليونان عبر تاريخ طويل من مشكلة الديون, بعدما حصلت على قروض منذ اليوم الأول لاستقلالها حدت من ذلك الاستقلال من خلال تدخل الدائنين في جميع مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية

عبداللطيف درويش

عانت اليونان عبر تاريخ طويل من مشكلة الديون, بعدما حصلت على قروض منذ اليوم الأول لاستقلالها حدت من ذلك الاستقلال من خلال تدخل الدائنين في جميع مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

وقد صرفت تلك الأموال على مشاريع البني التحتية والتسلح، حيث إن اليونان تعد واحدة من الدول الخمس الأولى في الإنفاق على التسلح. هذا بالإضافة إلى الفساد السياسي الذي استهلك جزءا لا يستهان به من مقدرات البلاد.

والجدير بالذكر أن 1000 شخص يملكون حوالي 600 مليار يورو في البنوك السويسرية فقط.  

تاريخ من الإفلاس
تقشف تديره الترويكا

تكريس تحكم الشمال بالجنوب

تاريخ من الإفلاس
أفلست اليونان في السنوات 1827 و1843 و1893 و1932، وها هي تدشن المرة الخامسة والتي ظهرت بوادرها عام 2004 أعقبتها حوارات طويلة ومضنية مع الدائنين الأوروبيين وصندوق النقد الدولي.

وتصل ديون اليونان إلى أكثر من 600 مليار يورو تتوزع كما يلي: 120 مليارا للمؤسسة الأوروبية لدعم السيولة (إي إل إيه)، و115 مليارا على شكل ديون متعثرة، و80 مليارا لمؤسسة الضرائب وصناديق التأمين، و320 مليارا لدول الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، هذا بالإضافة إلى بضعة مليارات لمؤسسات القطاع الخاص.

أفقد الاتحادَ الأوروبي القدرةَ على اتخاذ القرارات التنافسُ الأوروبي على القيادة وأزمةُ الثقة بين الأوروبيين وتنافسُ الدول فيما بينها للاستحواذ على السوق وتركيزُ القيادة في دول الشمال وسياسة التكتلات, مما زاد من الأزمات خاصة في دول الجنوب

وقد أثرت أزمة الديون اليونانية خاصة وأزمات الديون الأوروبية عامة على العلاقات الأوروبية وعلى العملة الموحدة سلبا، مما حدا بالبنك المركزي الأوروبي إلى أن يسن القوانين لمحاصرة الأزمة والحد منها.

أفقد الاتحادَ الأوروبي القدرةَ على اتخاذ القرارات التنافسُ الأوروبي على القيادة وأزمةُ الثقة بين الأوروبيين وتنافسُ الدول فيما بينها للاستحواذ على السوق وتركيزُ القيادة في دول الشمال وسياسة التكتلات, مما زاد من الأزمات خاصة في دول الجنوب، فقد هاجرت رؤوس الأموال من الجنوب إلى المراكز المالية في الشمال، في سويسرا ولوكسمبورغ وليختنشتاين ولندن, بينما هاجرت عقولها والأيدي العاملة المدربة إلى مدن الشمال، وذلك من خلال سياسة سعت إلى جعل دول الجنوب مجرد اقتصاديات محلية وإقليمية تخدم اقتصاد الشمال الأوروبي.

تقشف تديره الترويكا
واستفحلت الأزمة اليونانية، مما حدا بالاتحاد الأوروبي إلى فرض إجراءات تقشف أدارتها الترويكا الأوروبية للدائنين، والتي تحكمت في جميع مرافق الحياة وعلى جميع المستويات، مركزة على معاقبة اليونان بهدف إرهاب الدول الأخرى، وعلى الجباية  الضريبية وخفض الإنفاق، مما أدى إلى وصول البطالة إلى حوالي 2.5 مليون شخص وإلى انخفاض أداء قطاعي الصحة والتعليم وخلق أزمات اقتصادية خانقة. كما تسببت سياسة التقشف في انكماش الاقتصاد وإلى استقالة الحكومات المتتالية منذ العام 2004 قبل نهاية أي منها مدتها القانونية، مما خلق حالة من عدم الاستقرار السياسي واستفحال الأزمة الاقتصادية وجعل من اليونان منطقة طاردة للاستثمار.

وقد وصل حزب سيريزا اليساري بقيادة أليكسيس تسيبراس إلى السلطة في بداية العام الجاري بعد استقالة حكومة ساماراس اليمينية، دخل بعدها تسيبراس في حوار مع صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي بغرض حل أزمة الديون.

وبعد خمسة أشهر وبعد وصول المفاوضات إلى طريق مسدود ذهب تسيبراس إلى الاستفتاء بهدف الحصول على تفويض ودعم شعبي حصل أثناءه على أكثر من 61% من الأصوات.

وقد فشل الاتحاد الأوروبي في التأثير في نتائج الاستفتاء بعد أن توقف عن دعم البنوك اليونانية بالسيولة، مما دفع الحكومة اليونانية إلى إغلاقها لفترات، وذلك بهدف إضعاف الموقف التفاوضي  للحكومة اليونانية.

وها هي الحكومة اليونانية تضطر إلى التوقيع على الاتفاقية مع الدائنين التي تقضي بوجود دائم للترويكا في أثينا تراقب وتتحكم في مختلف مناحي الحياة من فرض إجراءات تقشف حادة، وتخفيض المرتبات، ورفع الضرائب، خاصة القيمة المضافة، خاصة على المؤسسات السياحية من 13% إلى 23%.

وأكثر ما يمس السيادة اليونانية هو أن تنشأ مؤسسة يكون مركزها في لوكسمبورغ تقوم بإجراءات البيع والخصخصة لمؤسسات وأملاك القطاع العام لخدمة الدين العام.

تكريس تحكم الشمال بالجنوب
إن الاتفاقية الجديدة لن تساعد في حل الأزمة اليونانية، وإنما ستكون كالاتفاقيات السابقة، حيث إنها ستزيد من نسبة الفقر والبطالة، كما ستعزز تحكم الشمال الأوروبي بجنوبه، وتزيد من حالة عدم الاستقرار  في اليونان.

إن التجربة اليونانية وتجارب العديد من الدول مع صندوق النقد الدولي تستحق التوقف عندها وتستحق الدراسة، كما يجب الحذر منها, في الوقت نفسه تستحق فكرة مجموعة بريكس الانتباه بل والتقليد في عالمنا العربي

ومن المتوقع أن يقوم تسيبراس بإعادة تشكيل حكومته، وسيقود الوضع الاقتصادي إلى انتخابات مبكرة، وسيؤدي ذلك إلى اضطراب قيمة اليورو ويزيد الشرخ بين دول الشمال والجنوب.

وقد أثرت الأزمة اليونانية على قيمة اليورو، كما أثرت سلبا على الأسواق الآسيوية والأميركية والأوروبية.

كما تأثرت الأرصدة العربية والدول التي تبنت سياسة سلة العملات بسبب ذلك الانخفاض. أما في السوق اليونانية فقد بلغت الودائع العربية في بداية الأزمة ثلاثة مليارات يورو.

وقد دفع طول مدة الأزمة والتجربة العربية في قبرص إلى قيام العديد من المستثمرين والمودعين إلى نقل معظم أموالهم للخارج. لكن الاستثمارات في مجال العقار والسياحة التي بقيت ستخسر أكثر من 50% من قيمتها وستفرض عليها ضرائب قد تؤثر على جدواها. كذلك غادر وسيغادر العديد من أبناء الجالية العربية إلى بلدانهم، مما سيضع أعباء على اقتصاديات بعض الدول العربية.

وباختصار، فإن التجربة اليونانية وتجارب العديد من الدول مع صندوق النقد الدولي تستحق التوقف عندها وتستحق الدراسة كما يجب الحذر منها. في الوقت نفسه فإن فكرة مجموعة بريكس تستحق الانتباه بل والتقليد في عالمنا العربي.
 ـــــــــــــــــــــــ
أستاذ الاقتصاد وإدارة الأزمات بفرع جامعة سيتي يونيفيرسيتي أوف سياتل، في أثينا

المصدر : الجزيرة