السياسات الغربية ومحنة الاقتصاد

محمد عبد الله العريان..إن صناعة السياسات التي كانت تصاغ ذات يوم من خلال مفاوضات تدار على مستوى الوسط السياسي، حيث كانت الديمقراطيات الغربية راسية منذ فترة طويلة، أصبحت تتشكل على نحو متزايد بفِعل قوى عنيدة تنتمي إلى أقصى اليمين أو أقصى اليسار

محمد عبد الله العريان

لطالما كنت أفتتن في نشأتي بكيفية إدارة السياسة الوطنية بتوافقاتها ومكائدها. واليوم أجدني أركز بصورة أعمق على اتجاهات سياسية أوسع نطاقا، تساعد أيضاً في تفسير قضايا اقتصادية عالمية.

من هذه الاتجاهات ما يتجلى بوضوح من تشرذم سياسي واستقطاب هنا وهناك في الديمقراطيات الغربية.

فهناك حركات هامشية، بعضها يعمل ضمن هياكل سياسية راسخة، بينما يسعى بعضها الآخر إلى خلق هياكل جديدة تفرض الضغوط على الأحزاب التقليدية، وتجعل من الصعب عليها حشد مؤيديها، وفي بعض الحالات تلحق بها ضرراً حقيقيا.

وفي محاولة يائسة لعدم الظهور بمظهر الضعف، أصبحت الأحزاب الراسخة متحفظة في التعاون مع الطرف الآخر.

أقصى اليمين وأقصى اليسار
أوروبا على الطريق
استياء من المؤسسات السياسية

أقصى اليمين وأقصى اليسار
وكانت نتيجة رفض العمل التعاوني بشأن قضايا رئيسية أن تأثرت السياسات الاقتصادية بشدة. إن صناعة السياسات التي كانت تصاغ ذات يوم من خلال مفاوضات تدار على مستوى الوسط السياسي، حيث كانت الديمقراطيات الغربية راسية منذ فترة طويلة، أصبحت تتشكل على نحو متزايد بفِعل قوى عنيدة تنتمي إلى أقصى اليسار واليمين.

ومن الواجب أن نقول إن هذا النهج أسفر في بعض الأحيان عن تطورات مفاجئة طيبة أحياناً وسيئة في أحيان أخرى. لكن النتيجة الإجمالية كانت الشلل السياسي، الذي عانت نتيجة له العناصر الأساسية للإدارة الاقتصادية (مثل إقرار الميزانية في الولايات المتحدة). وغني عن القول إنه كلما تعاظمت تحديات الحكم والسياسة في الداخل، أصبح التعاون الإقليمي والعالمي أكثر صعوبة.

إن أغلب الأحزاب الراسخة مشغولة  بلعب أدوار دفاعية حتى إنها لم تعد تميل إلا قليلاً إلى المشاركة في ذلك النوع من التفكير الإستراتيجي التقدمي المطلوب لإعادة تنشيط نماذج النمو المنهكة، وإرساء الاستقرار المالي، وضمان مساهمة الإبداع التكنولوجي في تمكين الرخاء العريض القاعدة

ويُعَد حزب الشاي في الولايات المتحدة مثالاً واضحا. فبعد نجاحه على الساحة الوطنية في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، أصبح العديد من المشرعين الجمهوريين قلقين للغاية، حول تأمين "قاعدة" حزبهم لتأمين إعادة الانتخاب في المستقبل، حتى أنهم لم يعد بوسعهم أن يشعروا بالارتياح في ملاحقة ذلك النوع من التعاون الثنائي الحزبية والذي يؤسس لصنع السياسات الاقتصادية الفعّالة.

لكن تأثير حزب الشاي لا ينتهي عند هذا الحد. فمن خلال مساهمته في تعطيل عمليات الحكومة الفدرالية وإثارة تهديد العجز الفني عن السداد بشكل متكرر، هدد الحزب بتقويض التعافي الاقتصادي الهش بالفعل في الولايات المتحدة. ورغم أن الحركة تطورت ولم تعد تهدد باحتجاز الاقتصاد رهينة، فإنها لا تزال تساهم في إحداث الشلل السياسي العام.

أوروبا على الطريق
ويبدو أن أوروبا تخطو الآن على مسار مماثل، حيث أصبحت الأحزاب غير التقليدية -وكثير منها تحركها قضية واحدة- متزايدة النفوذ.

فالحركات مثل الجبهة الوطنية المناهضة للهجرة في فرنسا تجعل أحزاب التيار الرئيسي أكثر ميلاً إلى إرضاء المتطرفين من أجل الحفاظ على دعمهم.

ومخاوف هذه الأحزاب ليست غير عقلانية بالكامل، كما اكتشف حزب الباسوك اليساري الراسخ في اليونان، عندما ارتفع حزب سيريزا اليساري المتطرف المناهض للتقشف إلى النصر في يناير/كانون الثاني. لكن هذا لا يغير حقيقة مفادها أن احتياج الأحزاب إلى معالجة مخاوفها الانتخابية يتسبب في إلحاق أضرار خطيرة بعملية صنع السياسات الوطنية.

الواقع أن أغلب الأحزاب الراسخة مشغولة للغاية بلعب أدوار دفاعية حتى أنها لم تعد تميل إلا قليلاً إلى المشاركة في ذلك النوع من التفكير الإستراتيجي التقدمي المطلوب لإعادة تنشيط نماذج النمو المنهكة، وإرساء الاستقرار المالي، وضمان مساهمة الإبداع التكنولوجي في تمكين الرخاء العريض القاعدة.

ونتيجة لهذا فإن الاقتصادات الغربية تعمل بشكل مزمن عند مستويات أدنى من إمكاناتها وتخاطر بتقويض قدراتها في المستقبل.

ولهذا السبب فإن أجيال المستقبل من المرجح أن تتذكر زمننا هذا بالفرص الاقتصادية الضائعة.

وبدلاً من الاستسلام للاستقطاب والشلل، يتعين على صناع السياسات أن يعملوا على تعزيز الاستثمار في مشاريع البنية الأساسية المعززة للنمو والإنتاجية الممولة بأسعار فائدة منخفضة،  وتوسيع نطاق إصلاحات سوق العمل، والعمل على معالجة فجوة التفاوت المتزايدة الاتساع في الدخل والثروة والتي تعمل بشكل متزايد على الحد من القدرة على الوصول إلى الفرص الاقتصادية.

وعلى نحو مماثل، يتعين على صانعي السياسات أن يعملوا على تجديد الهياكل الضريبية غير المتماسكة وغير المتناسقة التي تشوبها استثناءات غير عادلة.

وينبغي لهم أن يتابعوا إصلاح الهجرة لترميم النظام الذي يعاقب المواهب، ويشجع المخالفة، وكثيراً ما يؤدي إلى مأساة إنسانية، كما يتضح من آلاف المهاجرين الذين غرقوا في البحر الأبيض المتوسط في السنوات الأخيرة أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا.

استياء من المؤسسات السياسية
وهناك استياء واسع النطاق من المؤسسات السياسية في العديد من البلدان الغربية ومثال ذلك أن شعبية الكونغرس الأميركي هبطت إلى مستويات متدنية للغاية. ومن الصعب أن نرى ما قد يكسر الجمود الحالي.

يتعين على صانعي السياسات أن يعملوا على تعزيز الاستثمار في مشاريع البنية الأساسية المعززة للنمو والإنتاجية الممولة بأسعار فائدة منخفضة، وتوسيع نطاق إصلاحات سوق العمل، والعمل على معالجة فجوة التفاوت المتزايدة الاتساع في الدخل والثروة والتي تعمل بشكل متزايد على الحد من القدرة على الوصول إلى الفرص الاقتصادية

فداخل الأحزاب الراسخة، تتسم القوى الداعية إلى التجديد بالضعف وعدم التكافؤ. أضف إلى هذا وجود وسائل الإعلام المستقطبة والتي تعمل بصورة شبه قبلية فتعمل على تضخيم الانقسامات في المجتمع، بحيث يصبح التحول التعاوني محدوداً للغاية.

من جانبها، تناضل العديد من الأحزاب الهامشية بقوة للوصول إلى السلطة مع زيادة شعبيتها، وهو التحدي الذي اتضح في الانتخابات البريطانية الأخيرة.

أما تلك التي نجحت، مثل حزب سيريزا، فسرعان ما تحبطها الأنظمة الشديدة الجمود التي تحيط بها، مما يجعل الموقف بالنسبة لها أشد صعوبة بسبب افتقارها إلى الخبرة في الحكم.

وبمرور الوقت، سوف تتطور الأنظمة السياسية الغربية بحيث تلبي احتياجات اقتصاداتها. لكن إلى أن يحدث ذلك فإن الغالبية العظمى من الشركات والأسر سوف تضطر إلى التأقلم مع النظم التي تقدم الأقل لمساعدتها في تحقيق إمكاناتها، الأمر الذي يقودها إلى وضع غير موات في مواجهة المنافسين الذين يعملون في أنظمة أكثر دعما.

سوف يعوض الإبداع التكنولوجي عن الركود بعض الشيء، حيث يعمل على تمكين الأفراد والشركات من إدارة حياتهم وتوجيهها بشكل أكثر ذاتية، وهذا من شأنه أن يخلق جيوباً من التميز والرفاه.

ورغم أن هذا يبدو طيباً في نظر البعض، إلا أنه لا يكفي لوقف التفاوت المتعاظم في الدخل والثروة والفرصة, أو لإطلاق العنان للرخاء الشامل الذي تستطيع الاقتصادات الغربية، بل ينبغي لها أن تعمل على خلقه.
ـــــــــــــــ
كبير المستشارين الاقتصاديين في أليانز وعضو لجنتها التنفيذية الدولية. وهو رئيس مجلس الرئيس باراك أوباما للتنمية العالمية، وأحدث مؤلفاته كتاب "عندما تتصادم الأسواق".

المصدر : بروجيكت سينديكيت