إرث أزمة الديون الأوروبية

إرث أزمة الديون الأوروبية - كينيث روغوف
-

 

كينيث روغوف

منطقة اليورو والإصلاح البنيوي
القيود الائتمانية بعد الأزمة
تأخر أوروبا عن بلدان آسيوية

منطقة اليورو والإصلاح البنيوي
ما زال زعماء منطقة اليورو يناقشون أفضل السبل لدفع النمو الاقتصادي، ويرى قادة فرنسا وإيطاليا ضرورة تخفيف قيود "الميثاق المالي" للمنطقة.

اليوم أصبح إجمالي ديون الأسر والمؤسسات المالية أعلى كثيراً كحصة من الدخل القومي مقارنة بما كان عليه قبل الأزمة المالية

في نفس الوقت، يواصل زعماء البلدان الشمالية في منطقة اليورو ممارسة الضغوط المطالبة بتنفيذ الإصلاح البنيوي بطريقة أكثر جدية.

في الظروف المثالية، قد يكون بوسع كل من الجانبين تنفيذ رؤيته، لكن من الصعب أن نرى نهاية مقبولة لا تنطوي على إعادة هيكلة أو جدولة للديون بشكل كبير.

والواقع أن عجز ساسة أوروبا عن تصور هذا السيناريو يفرض عِبئاً كبيراً على البنك المركزي الأوروبي.

ورغم التفسيرات العديدة لتأخر تعافي منطقة اليورو، فمن الواضح أن الأعباء المترتبة على الديون في كل من القطاعين العام والخاص تبدو ثقيلة للغاية.

فاليوم أصبح إجمالي ديون الأسر والمؤسسات المالية أعلى كثيراً كحصة من الدخل القومي مقارنة بما كان عليه قبل الأزمة المالية.

وارتفعت ديون الحكومة بشكل حاد، نظراً لعمليات إنقاذ البنوك والهبوط الحاد في عائدات الضرائب نتيجة للركود.

القيود الائتمانية بعد الأزمة
صحيح أن أوروبا تصارع في الوقت نفسه الشيخوخة السكانية. كما عانت بلدان منطقة اليورو الجنوبية مثل إيطاليا وإسبانيا من المنافسة المتصاعدة من قِبَل الصين في مجال المنسوجات والصناعات التحويلية الخفيفة، لكن تماماً كما عملت طفرة الائتمان قبل الأزمة على حجب المشاكل البنيوية الأساسية، فإن القيود الائتمانية بعد الأزمة كانت سبباً في تضخيم الجانب السلبي إلى حد كبير.

وصحيح أن النمو الألماني يدين بالكثير لاستعداد ألمانيا قبل عقد من الزمان للانخراط في إصلاحات اقتصادية مؤلمة، وخاصة لقواعد سوق العمل. لكن يبدو أن ألمانيا اليوم حققت مستوى التشغيل الكامل للعمالة فضلاً عن معدلات نمو أعلى من الاتجاه السائد.

ويرى زعماء ألمانيا، وهناك بعض ما يبرر رؤيتهم هذه، أنه إذا تبنت فرنسا وإيطاليا إصلاحات مماثلة فإن التغييرات الناجمة عن هذا كفيلة بتحقيق المعجزات بالنسبة للنمو البعيد المدى في هذين البلدين.

الواقع أن البنك المركزي الأوروبي سوف يضطر قريباً إلى مواجهة حقيقة مفادها أن الإصلاحات البنيوية وتدابير التقشف المالي أقل كثيراً من أن تقدم حلاً كاملاً لمشاكل الديون في أوروبا

لكن ماذا عن البرتغال وأيرلندا وخاصة إسبانيا، والتي اتخذت جميعها خطوات مهمة نحو الإصلاح منذ اندلاع الأزمة؟

الواقع أن هذه البلدان لا تزال تعاني من معدلات بطالة مرتفعة للغاية في ظل نمو محتضر. وكما أوضح تقرير المراقبة المالية الأخير الصادر عن صندوق النقد الدولي بما لا يدع مجالاً للشك، فإن كل هذه البلدان لا تزال تعاني من مشاكل الديون الكبيرة.

إن أعباء الديون المتراكمة تجعل البلدان تدور في حلقة مفرغة، ذلك أن الديون العامة والخاصة المرتفعة إلى مستويات غير عادية تقيد الخيارات المتاحة لأي بلد وترتبط بشكل لا جدال فيه بتباطؤ النمو، والذي بدوره يزيد من صعوبة الإفلات من فخ الديون.

ومن الواضح أن حملة الربيع الماضي ضد كل من تجرأ على الإعراب عن قلقه إزاء التأثيرات الطويلة الأمد المترتبة على الديون المرتفعة تجاهلت الكتابات الأكاديمية الجوهرية، تماماً كما تجاهلت معارضة حديثة مماثلة لبحث توماس بيكيتي بشأن التفاوت قدراً ضخماً من الأدلة.

صحيح أنه ليس كل الديون متساوية، وأن هناك حجة قوية لصالح إضافة المزيد منها إذا كان الغرض يتمثل في تمويل الاستثمارات العالية الإنتاجية في مشاريع البنية الأساسية.

تأخر أوروبا عن بلدان آسيوية
وقد تأخرت أوروبا كثيراً عن العديد من البلدان الآسيوية في الجهود الرامية إلى التوسع في تغطية الإنترنت الفائق السرعة. ولكن خارج بلدان الشمال، تعاني شبكات الكهرباء من التفاوت والانقسام، ولابد من دمجها.

والواقع أن رفع مستويات الديون بغرض تحقيق زيادة كبيرة في النمو الطويل الأمد أو ضمانه أمر منطقي، وخاصة في بيئة تتسم بانخفاض أسعار الفائدة الحقيقية. وبوسعنا أن نسوق حجة مماثلة لصالح الإنفاق الذي يستهدف تحسين التعليم، على سبيل المثال تحسين أحوال جامعات أوروبا التي تعاني من نقص التمويل.

ولكن بعيداً عن الاستثمارات المعززة للنمو، تصبح الحجة لصالح المزيد من الحوافز أكثر دقة وتعقيدا.

إن أعباء الديون المتراكمة تجعل البلدان تدور في حلقة مفرغة، ذلك أن الديون العامة والخاصة المرتفعة إلى مستويات غير عادية تقيد الخيارات المتاحة لأي بلد وترتبط بشكل لا جدال فيه بتباطؤ النمو، والذي بدوره يزيد من صعوبة الإفلات من فخ الديون

قد زعم برادفورد ديلونغ ولاري سامرز أن الزيادات القصيرة الأجل في الاقتراض من الممكن في اقتصاد مكبوت أن تسدد نفسها بنفسها، حتى ولو لم يعمل الإنفاق على زيادة الإمكانات الطويلة الأجل بشكل مباشر. وفي المقابل يزعم ألبرتو أليسينا وسيلفيا أرداجان أن تدابير تثبيت استقرار الديون الموجهة نحو خفض حجم الحكومة قد تكون في واقع الأمر توسعية في حالة الاقتصاد الذي يعاني من حكومة ضخمة وغير فعّالة.

وأعترف بأنني دخيل على هذه المناقشة. (فلم تظهر كلمة "تقشف" ولو مرة واحدة في كتابي الصادر عام 2009 الذي اشتركت في تأليفه مع كارمن راينهارت عن تاريخ الأزمات المالية). بيد أنني أرى في عموم الأمر أن كلا الرأيين متطرف. فبشكل عام، لا يمكن للتقشف المحض، ولا التحفيز الخام بما يتفق مع نظريات جون ماينارد كينز، أن يساعد البلدان في الإفلات من فخ الديون المرتفعة. وعلى مر التاريخ، لعبت تدابير أخرى مثل إعادة جدولة الديون والتضخم والعديد من أشكال الضرائب التي قد تفرض على الثروة (مثل القمع المالي) دوراً كبيرا.

ومن الصعب أن نرى كيف قد يتسنى للبلدان الأوروبية أن تتجنب إلى ما لا نهاية اللجوء إلى مجموعة أدوات الدين الكامل، وخاصة لإصلاح الاقتصادات الهشة الواقعة على أطراف منطقة اليورو. والواقع أن ضمانة البنك المركزي الأوروبي التوسعية، التي تمثلت في الوعد ببذل "كل ما يلزم"، ربما تكون كافية للمساعدة في تمويل قدر من الحوافز القصيرة الأجل أكبر مما هو مسموح به حاليا، ولكن ضمانة البنك المركزي الأوروبي لن تحل مشاكل الاستدامة في الطويلة الأمد.

الواقع أن البنك المركزي الأوروبي سوف يضطر قريباً إلى مواجهة حقيقة مفادها أن الإصلاحات البنيوية وتدابير التقشف المالي أقل كثيراً من أن تقدم حلاً كاملاً لمشاكل الديون في أوروبا. ففي شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني، سوف يعلن البنك المركزي الأوروبي نتائج اختبارات إجهاد البنوك. ولأن العديد من البنوك تحتفظ بكميات ضخمة من ديون حكومات منطقة اليورو، فإن النتائج سوف تعتمد إلى حد كبير على الكيفية التي يقيم بها البنك المركزي الأوروبي المخاطر السيادية.

وإذا استخف البنك المركزي الأوروبي بهذه المخاطر بشكل صارخ فإن مصداقيته كجهاز تنظيمي سوف تتضرر إلى حد كبير. وإذا كان أكثر صراحة بشأن تقييمه للمخاطر، فلابد أن يدرك الاحتمال القائم بأن بعض البلدان الطرفية قد تواجه صعوبة في سد الثغرات، وسوف يتطلب الأمر المساعدة من الشمال. وإن المرء ليتمنى أن يكون البنك المركزي الأوروبي صريحا. فالآن حان الوقت المناسب لتبادل الحديث حول تخفيف أعباء الديون عن كاهل بلدان منطقة اليورو الطرفية بالكامل.
ــــــــــــــــــــ
كبير خبراء الاقتصاد الأسبق لدى صندوق النقد الدولي، وأستاذ الاقتصاد والسياسة العامة في جامعة هارفارد.

المصدر : بروجيكت سينديكيت