حكمة منع الأزمات المالية

حكمة منع الأزمات

undefined

محمد شيمشك

– غياب الإطار التنظيمي
– الهياكل المؤسسية المحلية
– تدفقات رؤوس الأموال

بصرف النظر عن مدى اختلاف وتعدد الكيفيات التي تصوغ بها الحكومات سياساتها فإن ضمان الاستقرار المالي يعد مسؤولية مشتركة بين كل الحكومات. وهذا يقتضي التنسيق الحقيقي والفعّال بين تلك السياسات، والاستعانة بإطار شامل للإدارة الاحترازية للاقتصاد الكلي على المستويين المحلي والدولي.

والحقيقة البسيطة هنا هي أن تكاليف منع الأزمات المالية أقل كثيرا من التكاليف التي تفرضها هذه الأزمات بعد اندلاعها. وترتبط الأزمات المالية في نهاية المطاف ارتباطاً مباشراً بانخفاض الناتج المحلي الإجمالي بشكل كبير والارتفاعات الحادة في معدلات البطالة، وبالقدر نفسه من الأهمية، فإن الأزمات المالية كثيرا ما تلحق أضراراً شديدة بالتماسك الاجتماعي.

فبعد خمس سنوات من اندلاعها لا تزال تداعيات الأزمة المالية والركود في أعقاب انهيار بنك الاستثمار الأميركي ليمان براذرز مستمرة، وفي العديد من الاقتصادات المتقدمة يظل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي أقل من المستويات المسجلة ما قبل الأزمة. كما أصبحت معدلات البطالة وعجز الميزانيات أعلى، وبلغت نسب الدين العام مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي مستويات قياسية.

إن السياسات الاحترازية للاقتصاد الكلي ليست بديلاً عن السياسات القوية للاقتصاد الكلي، ورغم هذا فإنها تشكل ضرورة أساسية لمنع نشوء فقاعات ضخمة في الأصول وتشوهات في الأسواق المالية، وبالتالي الحد من مخاطر الصدمات المعاكسة للأسواق والاقتصاد الحقيقي.

السياسات الاحترازية للاقتصاد الكلي ليست بديلاً عن السياسات القوية للاقتصاد الكلي، ورغم هذا فإنها تشكل ضرورة أساسية لمنع نشوء فقاعات ضخمة في الأصول وتشوهات في الأسواق المالية

غياب الإطار التنظيمي
على سبيل المثال، كانت أزمة تركيا المالية في العام 2001 نابعة أساسا من الافتقار إلى إطار تنظيمي وإشرافي فعّال يحكم عمل القطاع المصرفي. وأدت الأزمة إلى ارتفاع هائل لنسبة الدين العام بلغت ثلاثين نقطة مئوية. وانكمش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 5.7% وارتفعت البطالة بنحو 4.9 نقطة مئوية.

ومنذ ذلك الحين كانت تركيا تركز على الاستقرار المالي والإصلاحات البنيوية، مما أدى إلى تعزيز الأداء الاقتصادي وجعل البلاد أكثر قدرة على تحمل الصدمات. والواقع أن تركيا لم تضطر لإنفاق ليرة واحدة من أموال دافعي الضرائب على إعادة رسملة البنوك أو إعادة التأهل خلال الأزمة المالية العالمية. ولكن تكاليف إنقاذ المصارف خلال الأزمة التي عرفتها تركيا قبل 12 عاماً بلغت ما يقرب من 25% من الناتج المحلي الإجمالي.

وبفضل الأسس القوية التي يقوم عليها الاقتصاد التركي وتبني الإطار الكلي التحوطي في العام 2008 لم تخلف الأزمة المالية العالمية أي أثر دائم على الاقتصاد التركي. وكان التعافي سريعاً وقوياً، حيث اقترب نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي من 9% في المتوسط في الفترة بين 2010 و2011، وحالياً بلغ معدل البطالة في تركيا أدنى مستوياته في عشرة أعوام، وانخفضت نسبة الدين العام إلى حد كبير حيث يقل عن المستوى المسجل قبل اندلاع الأزمة.

وتدل تجربة تركيا على أن وضع الإطار الكلي التحوطي لا بد أن يضع في الحسبان العلاقات المالية الدولية والمحلية، وينبغي للإطار الدولي في المقام الأول أن يدرك المخاطر والتأثيرات الممتدة التي قد تخلقها مؤسسات مالية مهمة على مستوى النظام برمته، ويشكل تطوير وتنفيذ معايير بازل 3 المصرفية ضرورة أساسية لتوفير أدوات تصد من رأس المال لمكافحة التقلبات الدورية والقدرة على استيعاب الخسائر التي تكبدتها هذه المؤسسات.

الهياكل المؤسسية المحلية
وفيما يتصل بالتدابير المحلية، يشكل الهيكل المؤسسي لأي بلد عنصراً أساسياً لضمان الاستقرار المالي والتنسيق الفعّال للسياسات والتعاون. وقد أنشأت تركيا لجنة الاستقرار المالي للإشراف على التنفيذ الناجح والمضبوط بجدولة زمنية للسياسات التي تؤثر مباشرة على القطاع المالي، فضلا عن إنشاء لجنة التنسيق الاقتصادي لرصد وتقييم المسائل المتعلقة بالاستقرار الاقتصادي الكلي. وقد انكبت كلا الهيئتين على تعزيز الإطار التشغيلي للسياسات الاحترازية للاقتصاد الكلي وسبل تنفيذها.

على سبيل المثال، عدل نظام استهداف التضخم الذي ينفذه البنك المركزي التركي بحيث يشمل الاستقرار المالي، ومنذ نهاية العام 2010 طبق إطار جديد للسياسة النقدية، والآن تستعين السياسة النقدية بمجموعة أدوات أكثر شمولا، مثل سعر الفائدة الرسمي، ووضع حدين أدنى وأعلى لأسعار الفائدة، والنسب الجبرية للاحتياطي، وآلية تدبير الاحتياطيات المالية.

هيئة تنظيم العمل المصرفي والإشراف في تركيا تبنت تدابير تحوطية للاقتصاد الكلي، ومنها قواعد تنظيمية خاصة تتعلق بدراسة تقييم للقرض في مجال الرهن العقاري من أجل الحد من التوسع الائتماني السريع النابع من نمو القروض الاستهلاكية

كما تبنت هيئة تنظيم العمل المصرفي والإشراف وغيرها من الهيئات في تركيا تدابير تحوطية للاقتصاد الكلي، ففي العام 2011، على سبيل المثال، تبنت الهيئة المذكورة قواعد تنظيمية خاصة تتعلق بدراسة تقييم للقرض في مجال الرهن العقاري من أجل الحد من التوسع الائتماني السريع النابع من نمو القروض الاستهلاكية. وفي أوائل العام 2009 اعتمدت هيئة تنظيم العمل المصرفي والإشراف تدبيراً آخر بالغ الأهمية منعت بموجبه الأسر التركية من الاقتراض بالعملات الأجنبية، وبالتالي تلافت التأثيرات المترتبة على تقلب أسعار الصرف.

وفيما يتعلق بالقطاع المصرفي، فقد طبقت اختبارات تحمل الصدمات على البنوك منذ العام 2004، وتم الحفاظ على نسبة كفاية رأس المال المستهدفة عند مستوى 12% منذ العام 2006. وحتى أثناء الأزمة كانت نسب كفاية رأس المال أعلى من متطلبات بازل 2 التي كانت تفرض 8% على الأقل، وأصبح توزيع البنوك للأرباح يتم تحت الإشراف الدقيق للهيئة منذ العام 2008. ونتيجة لهذا أنشأت صناديق احتياطيات وافرة ضمن الميزانيات العمومية للبنوك وظل العائد على حقوق المساهمين مرتفعاً.

كما عدلت تركيا أيضاً القوانين الضريبية بحيث تعاقب الاقتراض الخارجي المفرط من لدن الشركات غير المالية، وتقدم حافزاً كبيراً يهدف إلى تشجيع المدخرات الأسرية الطويلة الأجل.

تدفقات رؤوس الأموال
ولكن رغم هذه التدابير ظل الوضع مثيرا للقلق، فمع اندلاع الأزمة المالية العالمية وظفت الاقتصادات المتقدمة الكبرى سياسات نقدية غير تقليدية، مما أدى لخلق تدفقات هائلة من رؤوس الأموال إلى اقتصادات الأسواق الناشئة، وهو ما أدى بدوره إلى خفض تكاليف الاقتراض وزيادة القدرة على الحصول على الائتمان.

ورغم أن الميزانيات العمومية للقطاعات العامة في الاقتصادات الناشئة أصبحت أقوى من أي وقت مضى -بفضل انخفاض العجز والديون مرفق باحتياطيات ضخمة من النقد الأجنبي- فإن معدلات الاستدانة ارتفعت بين الأسر والشركات. وكان هذا سبباً في زيادة ضعف العديد من الأسواق الناشئة في مواجهة أي انعكاس حاد في اتجاه تدفقات رأس المال، ويصدق هذا خاصة عندما نتحدث عن البلدان الناشئة التي كانت تعاني عجزا ضخما في الحساب الجاري مثل تركيا.

فمع بلوغ عجز تركيا الخارجي ما يعادل 6% من الناتج المحلي الإجمالي تبنت السلطات إطاراً تحوطياً في إدارة الاقتصاد الكلي يجمع بين السياسات الرامية للحد من تقلبات أسعار الصرف في الأمد القريب جداً، إلى جانب التدابير اللازمة لزيادة المدخرات المحلية وتعزيز القدرة التنافسية الدولية للقطاع الحقيقي في الأمد البعيد. وهو النموذج الذي يتعين على الاقتصادات الناشئة الأخرى أن تفكر في الاقتداء به.

ـــــــــــ
وزير المالية التركي

المصدر : بروجيكت سينديكيت