إضعاف العملة أم إضعاف الذات؟

epa02969762 Chinese yuan or Renminbi (RMB), U.S. Dollar and Euro banknotes seen in Beijing, China, 17 October 2011. Chinese Premier Wen Jiabao pledged that China will maintain a stable yuan to avoid hurting exports reported state media on 15 October after the U.S. Senate passed a bill to allow higher tariffs on Chinese goods deemed unfairly cheap due to an artificially undervalued currency. EPA/HOW HWEE YOUNG

undefined

محمد عبد الله العريان

معظم الدول تسعى لإضعاف عملتها
نتائج سيئة لإفقار الجار
محفزات الاستهلاك والإنفاق الاستثماري

معظم الدول تسعى لإضعاف عملتها
إن أكثر الدول اليوم لا تحرص على الاحتفاظ بسعر صرف قوي لعملاتها، بل إن القليل من الدول، بما في ذلك الدول المهمة للنظام العالمي، تعمل بنشاط بالفعل على إضعاف عملاتها.

ولكن رغم هذا، ولأن سعر الصرف هو في واقع الأمر سعر نسبي، فمن غير الممكن أن تضعف كل العملات في وقت واحد.

والواقع أن الكيفية التي قد يحل بها العالم هذا التناقض الأساسي على مدى الأعوام القليلة المقبلة سوف تخلف تأثيرا كبيرا على توقعات النمو، وتشغيل العمالة، وتوزيع الدخول، وأداء الاقتصاد العالمي.

كانت اليابان آخر دولة تعلن أن الكيل فاض بها، فبعد أن شهدت عملتها وهي ترتفع بصورة كبيرة في السنوات الأخيرة، قررت حكومة رئيس الوزراء شينزو آبي الجديدة اتخاذ خطوات تهدف إلى تغيير ديناميكية سعر الصرف التي تتبناها البلاد، وكان النجاح حليفها في هذا الصدد.

ففي غضون فترة لا تتجاوز الشهرين إلا قليلا، هبطت قيمة الين بنسبة تتجاوز 10% في مقابل الدولار، وتقترب من 20% في مقابل اليورو.

وقد أعرب زعماء أوروبيون بالفعل عن تحفظاتهم بشأن تحركات اليابان، واستشاطت صناعة السيارات في الولايات المتحدة غضبا. وقبل بضعة أيام، حذر ينس وايدمان رئيس البنك المركزي الألماني علنا من أن العالم يخاطر بالدخول في جولة ضارة وعقيمة من الخفض التنافسي لأسعار صرف العملات، أو بعبارة أكثر وضوحا "حرب العملات"، وهو المصطلح الذي استخدمته البرازيل في وقت سابق للتعبير عن مخاوف مماثلة.

لا شك أن اليابان ليست الدولة الأولى التي تسلك هذا الطريق، فقد سبقتها دول متقدمة وناشئة أخرى، وأظن أن عددا غير قليل من الدول سوف يتبعها.

فلم يمر سوى ما يزيد على العام قليلا منذ فاجأت سويسرا العديد من المراقبين عندما أعلنت عن تحديد عتبة لا تسمح بعدها لعملتها بالارتفاع في مقابل اليورو. ولنتذكر أن النموذج الذي تبنته البلاد لقرون من الزمان كان يتلخص في توفير ملاذ آمن لرأس المال الأجنبي.

بعض الدول تعمل علانية وبقوة على مقاومة ارتفاع عملتها، بينما تعمل أخرى الشيء نفسه لكن بطريقة أقل وضوحا

وليس بالضرورة أن يكون المرء خبيرا اقتصاديا حتى يدرك أن العملات رغم إمكانية انخفاض قيمتها جميعها (وهذا يحدث بالفعل) في مقابل شيء آخر (مثل الذهب، أو الأراضي، أو غير ذلك من الأصول الحقيقية) فإنها بحكم التعريف من غير الممكن أن تضعف جميعها بعضها في مقابل بعض. فلكي تنخفض قيمة بعض العملات، لا بد من ارتفاع قيمة عملات أخرى. وهنا تصبح الأمور مشوقة، ومعقدة، وربما خطيرة.

نتائج سيئة لإفقار الجار
واليوم لا نرى أن أي مجموعة من الدول المهمة لديها الرغبة في زيادة قيمة عملتها.

بل إن بعض الدول تعمل علانية وبقوة على مقاومة ارتفاع عملتها بينما تعمل أخرى الشيء نفسه لكن بطريقة أقل وضوحا.

ويبدو أن منطقة اليورو فقط تقبل موقعها طرفا متلقيا لتحركات الدول الأخرى.

ولا شيء من هذا غير مسبوق، بل إن العديد من الباحثين يبرهنون على أن مثل هذا النهج القائم على إفقار الجار يفضي إلى نتائج سيئة في مجموعها. بل هناك اتفاقيات متعددة الأطراف أبرمت من أجل الحد من هذه المخاطر، بما في ذلك اتفاقيات أبرمت في صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية.

ورغم هذا تنجرف دولة تلو الأخرى عندما يجد الجد إلى استحثاث نتائج ضارة محتملة تؤثر على الاقتصاد العالمي ككل. والأسوأ من هذا أن هذه العملية لم تبحث جديا حتى الآن على أجندة السياسات المتعددة الأطراف.

ويرجع هذا إلى أسباب عديدة، تتراوح بين الحالة الواهنة التي تمر بها الإدارة المتعددة الأطراف والقضايا الداخلية الملحة التي تستحوذ حاليا على اهتمام صناع القرار السياسي. ولكن هناك أيضا هناك عاملا آخر، وهو أن أسباب أزمة اليوم يصعب فهمها والتصدي لها بفعالية.

وخلافا للماضي، لا يرتبط التهديد بنشوب حرب عملة باختلال التوازن التجاري وأزمات ميزان المدفوعات مباشرة، فهناك بدلا من هذا محرك آخر مهم يتمثل في لجوء البنوك المركزية الكبرى إلى تدابير تجريبية في محاولة التعويض عن أوجه القصور في السياسات والخلل السياسي في أماكن أخرى.

وإذا كان للعالم أن يتجنب أضرارا جسيمة، فمن الأهمية بمكان أن يفهم الديناميكيات العاملة في هذا السياق. ويتلخص الوصف المبسط للمسألة في التالي: في مواجهة انخفاض النمو وارتفاع البطالة.

ومع تشبث صناع القرار السياسي الآخرين بأمور ثانوية فإن أي بنك مركزي مثل بنك الاحتياطي الاتحادي الأميركي يستشعر أنه لا خيار لديه غير تبني سياسة نقدية قائمة على المواءمة إلى حد كبير. ومع انخفاض أسعار الفائدة الرسمية إلى الصفر بالفعل، فإنها تجد نفسها ملزمة بالغوص إلى أعماق أبعد في عالم مجهول من "السياسات غير التقليدية". 

محفزات الاستهلاك والإنفاق الاستثماري
والهدف، كما قال رئيس بنك الاحتياطي الاتحادي الأميركي بن برنانكي مرة أخرى في ديسمبر/كانون الأول يتلخص في "دفع" المستثمرين إلى خوض المزيد من المجازفة.

إذا كان للعالم أن يتجنب أضرارا جسيمة، فمن الأهمية بمكان أن يفهم الديناميكيات العاملة في هذا السياق، ويتلخص الوصف المبسط للمسألة في التالي: في مواجهة انخفاض النمو وارتفاع البطالة

وعلى وجه التحديد، كان الأمل معقودا على نجاح الارتفاع المصطنع في أسعار الأصول في حمل الناس على الشعور بأنهم أصبحوا أكثر ثراء وأكثر تفاؤلا، وهو ما من شأنه بالتالي أن يحرك الأثرياء ومحفزات الاستهلاك والإنفاق الاستثماري، وأن يدعم خلق فرص العمل، و"يضفي الشرعية" في إطار هذه العملية على تسعير الأصول المصطنع.

في الممارسة العملية، لم تثبت هذه العملية أنها مباشرة وصريحة. وعلاوة على ذلك فإن جزءا من السيولة التي يضخها بنك الاحتياطي الاتحادي تجد طريقها إلى الأسواق المالية في دول أخرى. ونلاحظ الارتفاع الحاد الذي طرأ على تدفقات رأس المال إلى الأسواق الناشئة مع ملاحقة المستثمرين لعائدات مالية أعلى. وما يزيد الأمور تعقيدا أن هذه التدفقات أصبحت وبشكل متزايد أقل ارتباطا بالأسس الاقتصادية والمالية في الدول المتلقية.

كما يشعر العديد من المستثمرين بالحاجة إلى خلق التوازن بين الاستثمارات القائمة على المضاربة بشكل متزايد أي ضبط أوضاع الكيانات التابعة، وبين استثمارات أكثر أمانا أي ضبط أوضاع الكيانات الأساسية. ولتحقيق الهدف الأخير، يتحول المستثمرون إلى البلدان التي تتمتع بإدارة حكيمة، فيفرضون بذلك ضغوطا تدفع عملاتها إلى الارتفاع أيضا ومرة أخرى، بما يتجاوز ما قد تسمح به العوامل الأساسية المحلية.

وليس من المستغرب أن تبدي المزيد والمزيد من الحكومات تخوفاتها بشأن ارتفاع أسعار الصرف. وبالإضافة إلى العراقيل المرتبطة بالسياسات القصيرة الأمد، فإن العملة الأقوى تحمل في طياتها تكاليف كبيرة محتملة تتمثل في تفريغ القطاعات الصناعية والخدمية. وعلى هذا، فبعد مزيج متفاوت من المرونة والاستجابات "غير التقليدية"، ينجرف المسؤولون إلى تخفيف سياساتهم النقدية من أجل إضعاف عملات بلدانهم، أو على أقل تقدير الحد من سرعة ارتفاع سعر الصرف.

وقد يتبين لنا أن هذه الفترة من تناقض السياسات هي مؤقتة وقابلة للانحسار إذا نجحت البنوك المركزية في دفع الاقتصادات دفعا إلى الخروج من وعكتها، وإذا أدركت الدول الحاجة الماسة إلى المزيد من تنسيق السياسات بين الحدود.

ومكمن الخطر هنا هو أن تؤدي هذه الظاهرة إلى ارتباكات واختلالات واسعة النطاق، في الوقت الذي تغذي فيه التحديات السياسية الوطنية الصعبة التوترات الإقليمية بينما يثبت النظام المتعدد الأطراف عجزه عن إصلاح آمن لاختلالات التوازن.

وفي حال لم يتعامل صانعو القرار السياسي مع الأمر بحذر وحكمة ولم يحالفهم الحظ فإن حجم هذه المخاطر سوف يتضخم بصورة كبيرة في الأعوام المقبلة.
ـــــــــــــــــــــــــ
محمد عبد الله العريان الرئيس التنفيذي لمؤسسة بيمكو ومسؤولها الإعلامي المشارك، ومؤلف كتاب "عندما تتصادم الأسواق".

المصدر : بروجيكت سينديكيت