نحو إدارة رشيدة لسعر الجنيه المصري

نحو إدارة رشيدة لسعر الجنيه المصري
undefined

عبد الحافظ الصاوي

قيمة الانخفاض
إدارة سعر الصرف
متطلبات الإدارة الرشيدة

سعر صرف أي عملة يتحدد وفق مجموعة من المؤشرات الاقتصادية المتعلقة بالجوانب الإنتاجية والمالية، وفي حال ارتفاعه أو انخفاضه يكون له تأثيره على تلك الجوانب. ولذلك نجد بعض البلدان تسعى لعدم رفع قيمة عملتها أو تخفيضها حفاظًا على صادراتها، ولكن تلك الدول لديها مرونة إنتاجية عالية تتفاعل مع انخفاض سعر الصرف فتلبي كافة الاحتياجات التصديرية.

غير أن دولا أخرى لا يتوفر لها هذا العامل الإيجابي من مرونة في الجهاز الإنتاجي، ومن ثم يكون لانخفاض قيمة سعر صرف عملتها مردود سلبي بسبب اعتمادها على الخارج وارتفاع قيمة وارداتها، وهو ما نلمسه في الواقع المصري.

ففي يناير/كانون الثاني 2003 أعلنت الحكومة المصرية خفض قيمة عملتها فكان الأثر سلبيًا، إذ ارتفعت قيمة الواردات بمعدلات عالية وزادت معدلات التضخم.

وفي الآونة الأخيرة لوحظ انخفاض قيمة سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار ليصل سعر بيع الأخير في البنوك المصرية نحو 6.18 جنيهات، وسعر شرائه 6.15 جنيهات. وهناك مخاوف بشأن المزيد من خفض قيمة الجنيه بسبب عدم استقرار الأوضاع الاقتصادية في مصر، أو ما يقال عن أن هذا الخفض أحد شروط توقيع اتفاق القاهرة مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 4.8 مليارات دولار.

قيمة الانخفاض
ولعل من المناسب أن نتناول القضية في إطار بعد زمني يرتبط بوقائع الثورة المصرية، فمع بداية يناير/كانون الثاني 2011 كان سعر الدولار 5.82 جنيهات، وفي مارس/آذار من العام نفسه بلغ 5.96 جنيهات، ولكن في نهاية العام ذاته كان السعر في حدود 6.03 جنيهات.

هناك مخاوف بشأن المزيد من خفض قيمة الجنيه بسبب عدم استقرار الأوضاع الاقتصادية في مصر

وبذلك تكون قيمة الجنيه قد انخفضت بمقدار 21 قرشًا مقابل الدولار في نهاية عام 2011، وبما يعادل نسبة 3.6%. ولكن بعدما اقترب عام 2012 على الانتهاء، يلاحظ أن قيمة الجنيه مقابل الدولار واصلت الانخفاض ليصل سعر شراء الدولار في البنوك المصرية نحو 6.15 جنيهات، أي أن مقدار الانخفاض في قيمة الجنيه بنهاية العام 2012 مقارنة بما كانت عليه قيمته في يناير/كانون الثاني 2011 بلغ 33 قرشًا، وبما يعادل نسبة 5.6%.

وتكمن المشكلة هنا في تبعات هذا الانخفاض، وغياب الرقابة الحكومية والأهلية عن السوق المصرية. فقد تكون هناك سلع وخدمات لا علاقة لها بسعر الصرف، ولكن ترتفع قيمتها بصورة مبالغ فيها. ولا تكون هذه الزيادة في الإطار الزمني للدورات التجارية المرتبطة بالتعاملات الخارجية، ولكن مجرد انخفاض قيمة الجنيه في سوق الصرف ترتفع قيمة السلع المستوردة الموجودة بالفعل داخل الأسواق المصرية.

إدارة سعر الصرف
منذ تنفيذ مصر برنامج الإصلاح الاقتصادي مطلع تسعينيات القرن الماضي، تم تحرير قيمة الجنيه وشهد سعره مقابل الدولار انخفاضات متتالية، كان أبرزها عندما أعلن رئيس الوزراء آنذاك عاطف عبيد في يناير/كانون الثاني 2003 عن التحرير الكامل لسعر صرف الجنيه.

ومنذ ذلك التاريخ يدير البنك المركزي المصري سعر الصرف بطريقة غير مباشرة عبر آلية ما يعرف بالسوق المفتوحة، وهو ما ساعد على استقرار سعر الصرف منتصف العام 2004 وحتى وقوع الأزمة المالية العالمية، عند 5.30 جنيهات للدولار تقريبًا، ثم واصل سعر صرف الجنيه الانخفاض أمام الدولار حتى نهاية العام 2010 ليصل إلى نحو 5.82 جنيهات.

وكان لأحداث ثورة 25 يناير متغيرات اقتصادية سلبية على بعض موارد العملات الأجنبية لمصر، حيث تراجعت حركة السياحة الخارجية أو توقفت بالفعل في بعض الشهور، وخرجت بعض الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة من مصر إبان الثورة، كما تراجعت تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وكذا الصادرات السلعية بنسب بسيطة، وارتفعت قيمة الواردات من ناحية أخرى.

كل ذلك ساعد على مزيد من انخفاض سعر صرف الجنيه ليصل في ديسمبر/كانون الثاني 2012 إلى نحو 6.15 جنيهات للدولار. ويضاف إلى العوامل السابقة التي ساعدت على انخفاض قيمة الجنيه، حالة عدم الاستقرار على الصعيدين السياسي والاقتصادي، بما أدى إلى وجود حالة من الترقب لدى المستثمرين الأجانب أو المانحين الذين يريدون تقديم المساعدات للاقتصاد المصري.

غير أن من الضروري أن نشير إلى أن استقرار بعض الموارد الخاصة بالنقد الأجنبي في مصر، بل وزيادة بعضها، كان له دور في المحافظة على معدلات انخفاض محدودة في سعر صرف الجنيه. فالموارد الخاصة بعوائد البترول وقناة السويس لم تتأثر بأحداث الثورة، كما زادت عوائد العاملين المصريين بالخارج من نحو 12 مليار دولار نهاية عام 2010 إلى نحو 18.1 مليارا بنهاية يونيو/حزيران 2012، وذلك وفق بيانات البنك المركزي المصري.

ورغم نتائج الثورة الإيجابية منها والسلبية، وانخفاض قيمة سعر صرف الجنيه أمام الدولار بالقيم المذكورة، ظل البنك المركزي يعمل وفق آلية السوق المفتوحة.

وتبقى المخاوف الاقتصادية تحوم حول حدوث مزيد من الانخفاض في سعر صرف الجنيه بسبب الأداء الاقتصادي الذي كان ينتظر له الانطلاق بدلا من حالة الترقب الحالية على الصعيدين الداخلي والخارجي، وهو ما يجعلنا نفكر في وضع مجموعة من المقترحات التي تساعد صانع السياسة النقدية في مصر على الوصول إلى سعر صرف متوازن يتناسب مع الظروف الاقتصادية الحالية.

متطلبات الإدارة الرشيدة
لا تعمل السياسة النقدية بمفردها لكي يتحسن وضع سعر صرف الجنيه، ولكن كما ذكرنا في البداية أن هناك عوامل أخرى تؤثر وتتأثر بسعر الصرف، ثم يأتي دور السياسة النقدية وما تتخذه من إجراءات للوصول إلى إدارة رشيدة لسعر صرف الجنيه كي يكون معبّرًا بالفعل عن قيمته الحقيقية دون تدخل بالزيادة أو النقصان. ومن هذه المتطلبات ما يلي:

رغم نتائج الثورة الإيجابية منها والسلبية، وانخفاض قيمة سعر صرف الجنيه أمام الدولار بالقيم المذكورة، ظل البنك المركزي يعمل وفق آلية السوق المفتوحة

أولا- العمل على زيادة معدلات النمو للناتج المحلي الإجمالي عبر وجود دور أكبر للقطاعات الإنتاجية، وزيادة معدلات القيمة المضافة للسلع والخدمات. فمن غير المقبول أن يستمر معدل النمو عند 2.6%، بل لا بد أن يتضاعف خلال العام المالي القادم 2012/2013، كي يترتب عليه خلق فرص عمل جديدة، وخفض معدلات البطالة، وبالتالي زيادة معدلات الإنتاج والاستهلاك، فضلا عن تخفيف عبء الاعتماد على الخارج وما يتطلبه ذلك من تدبير عملات أجنبية.

ثانيًا- ترشيد الواردات، إذ تشير بيانات البنك المركزي المصري إلى أن الواردات السلعية مع نهاية العام المالي 2011/2012 بلغت 58.7 مليار دولار، بزيادة نسبتها 8.5% عن العام 2010/2011، في حين تراجعت الصادرات السلعية بنسبة طفيفة بلغت 0.1%. وترجع نسبة كبيرة من الزيادة في قيمة الواردات السلعية إلى المدفوعات الخاصة باستيراد المواد البترولية.

وعليه فإن المطلوب هو ترشيد استخدام تلك الموارد البترولية من جهة، وترشيد باقي الواردات وخاصة السلع الاستهلاكية التي تشكل تقريبا رُبع الواردات المصرية.

وهناك أبواب كثيرة لترشيد هذه الواردات عبر إجراءات محلية، مثل تشجيع الصناعات المحلية على تصنيع السلع المستوردة، أو ما يعرف باتباع سياسة إحلال محل الواردات، واستخدام شروط السلامة والصحة وباقي اشتراطات اتفاقيات منظمة التجارة العالمية مثل اتفاقية الإغراق، واتفاقية الوقاية من الواردات، وهي بطبيعتها تصب في صالح مصر إذا ما طبقت بصورة صحيحة.

ثالثًا- إعادة النظر في قيام الجهاز المصرفي بتدبير عملات أجنبية لكافة الواردات، فالمطلوب في ظل الأزمة التي تعيشها مصر على الصعيد المالي والاقتصادي، ألا يتم تدبير عملات أجنبية لاستيراد طعام للقطط والكلاب مهما كانت قيمة هذه الواردات ضئيلة، وكذلك الخمور أو مستحضرات التجميل، فعلى مستوردي هذه السلع تدبير احتياجاتهم بعيدًا عن الجهاز المصرفي.

رابعًا- الوصول إلى تعهد من قبل المصدّرين بإعادة كامل قيمة الصادرات إلى داخل مصر وعدم الاحتفاظ بها في الخارج، مقابل أن يستمر الجهاز المصرفي في تدبير احتياجاتهم من العملات الأجنبية، بل وتكون لهم الأولوية عن غيرهم في حال التزامهم بهذا الأمر. وليس بالضرورة أن يتم هذا عبر قرارات أو قوانين، ولكن يمكن الاتفاق على ذلك في إطار تعهد من قبل رجال الأعمال للبنك المركزي.

استمرار الأوضاع السياسية على ما هي عليه من حالة السيولة وغياب المؤسسات، ستكون له عواقب وخيمة على الاقتصاد المصري

خامسًا- تشديد الإجراءات الرقابية في الموانئ والمطارات على دخول وخروج العملات الأجنبية بصورة غير رسمية، حيث أشير غير مرة في وسائل الإعلام إلى محاولات البعض للخروج بكميات كبيرة من العملات الأجنبية بطرق غير قانونية وبعيدًا عن الجهاز المصرفي. وليس هذا فحسب، بل يجب أن تمتد الإجراءات الرقابية إلى القيام بعمليات فحص دقيق على الواردات السلعية، حيث لوحظ بعد الثورة ضبط كميات كبيرة من الحبوب المخدرة ضمن الشحنات المستوردة بمسميات لسلع أخرى، وخاصة تلك الواردة من الهند.

سادسًا- أن تستمر البرامج التوعوية للمصريين بأهمية أخذ ما يلزمهم من العملات المناسبة للدول التي يسافرون إليها، فالمسافرون إلى السعودية أو دول الاتحاد الأوروبي مثلا لا يحتاجون إلى الدولار الأميركي. وفي هذا الإطار ينبغي التنبيه إلى أهمية إيداع كافة العملات الأجنبية في الجهاز المصرفي والبعد عن الاحتفاظ بها في البيوت أو الشركات، إذ من شأن ذلك أن يساعد على زيادة العرض مقابل الطلب، وبالتالي يسهل من الوصول إلى سعر عادل ومتوازن لصرف الجنيه مقابل الدولار والعملات الأخرى.

يبقى أن نشير في نهاية هذا التحليل إلى أنه توجد نقاط ضعف وقوة في إدارة السياسة النقدية لسعر صرف الجنيه، وهي أنه لم يتم اللجوء إلى تدابير استثنائية حتى الآن -على مدار عامين من الثورة- تخفي في طياتها نوعًا من الحماية، وهذا هو الأمر الإيجابي. أما السلبي فيتمثل في تلك المخاوف التي تعتري قدرة الاقتصاد المصري على تحمل تبعات انخفاض قيمة سعر صرف الجنيه دون تدخل، خاصة إذا ما طالت حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي.

ومن جملة القول أنه لا بد أن تعي القوى السياسية بمختلف مشاربها، أن استمرار الأوضاع السياسية على ما هي عليه من حالة السيولة وغياب المؤسسات، ستكون له عواقب وخيمة على الاقتصاد المصري ككل، وعلى سعر صرف الجنيه بشكل خاص. ومن هنا لا بد أن تستكمل الدولة مؤسساتها وسلطاتها، حتى يطمئن رأس المال المحلي والأجنبي إلى عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية والاستثمارية، والقاعدة المعروفة تقول إن "رأس المال جبان".
______________
كاتب صحفي مصري

المصدر : الجزيرة