الاقتصاد الأميركي على شفا الإفلاس

الاقتصاد الأميركي على شفا الإفلاس
undefined
 
 

زاد التجاذب السياسي بين جناحي النظام السياسي في أميركا: الجمهوريين والديمقراطيين بخصوص إدارة مشكلة الدين العام لأقوى اقتصادات العالم على الإطلاق بشكل غير مسبوق إلى درجة فشل مجلس الشيوخ في تمرير خطة البيت الأبيض للإنقاذ.

 
ولامس الدين العام في الولايات المتحدة الأميركية سقف 75% من الناتج المحلي الإجمالي ليحقق رقما في تاريخ الوقائع الاقتصادية لأكبر اقتصاد في العالم أي 14.3 تريليون دولار. ومعنى ذلك أن الخزانة الأميركية أصبحت أول خزانة حكومية مدينة في العالم مما حولها إلى ساحة جدل نقدي ومالي دولي  ووضع المدير التنفيذي الجديد لصندوق النقد الدولي الفرنسية كرستين لاغارد في وضع لا تحسد عليه وهي تصعد أولى درجات سلم هذه الهيئة العريقة والمكلفة بضبط النظام النقدي الدولي.
 
فماذا يعني أن تنتقل أزمة الديون الحكومية سريعا إلى الولايات المتحدة الأميركية بعد أن ساد الاعتقاد بأن الأمر يقتصر على الدول الصغيرة والهشة؟ وهل يعني ذلك بالضرورة إفلاس الدولة التي انفردت بحكم العالم سياسة وعسكرا واقتصادا منذ  تفكك الاتحاد السوفياتي العام 1991؟ وما المطلوب عمله من قبل الدول الفقيرة والمتوسطة الدخل -ومنها الدول العربية- لتجنب أزمة مالية أخرى قد تعصف بما تبقى لديها من مقدرات التنمية؟
 
الخصوم الجدد
يجري حاليا بالولايات المتحدة الأميركية جدل بين مجلس النواب ومجلس الشيوخ من جهة والإدارة الاقتصادية من جهة ثانية حول السبل الناجعة لمعالجة أزمة جديدة في أول اقتصاد عالمي قد تؤدي إلى أزمة عالمية أخرى تختلف جذريا عن الأزمة التي شهدها العالم العام 2008.

"
تراكمت الديون على ى الخزانة الأميركية حتى وصلت إلى 75% من الناتج المحلي الإجمالي الذي يبلغ 19 تريليون دولار

"

والأمر يتعلق بحجم الديون التي تراكمت على الخزانة الأميركية حتى وصلت إلى 75% من الناتج المحلي الإجمالي الذي يبلغ 19 تريليون دولار وهو السقف الأعلى الذي يحول دون مزيد من الاقتراض إلا بقانون جديد.
 
وأمام ممثلي الشعب الأميركي إذا خياران أحلاهما مر، الأول: رفع سقف الاقتراض من جديد إلى ما بين 80% و85% من الناتج المحلي الإجمالي وبالتالي الاقتراب من عتبة إفلاس الخزينة والاقتراب أكثر من المشهد اليوناني. والثاني: إقرار نظم ضريبية جديدة تسمح بتمويل الخزينة عن طريق الأدوات المحلية وبالتالي إثارة الناخب الأميركي الذي يرى في التخفيف الجبائي والرعاية الصحية مكاسب لا تنازل عنها كيفما كانت الظروف. وفي كلتا الحالتين ستجد الإدارة الأميركية نفسها في مواجهة خصمين اثنين، الأول: يتمثل في الدائنين الكبار أي الصين واليابان والسعودية وهي الدول الدائنة لأميركا بمبلغ يزيد قليلا عن ثلاثة آلاف مليار دولار، إلى جانب أسواق المال والسوق النقدية الخارجية التي ما زالت تعمل بآلية الإقراض بفوائد. والخصم الثاني: يتمثل في المواطن الأميركي وخاصة أصحاب المداخيل الكبيرة والشركات الصناعية التي حافظت على تماسك الاقتصاد الأميركي عندما أفلست البنوك غداة الإعلان عن أزمة الرهن العقاري صيف العام 2007.
 
وسنرى كيف يبني الخصوم الجدد لأميركا سلوكهم في المدى المنظور، وكيف يمكن لواضعي السياسات الاقتصادية في البيت الأبيض التكيف مع الواقع الجديد.
 
اقتصادات الرفاه
سلكت أميركا طريق الاستدانة لهدفين اثنين، الأول: تحقيق مطالب الناخب الأميركي الموعودة في الحملات الانتخابية، أي التخفيف الجبائي والرعاية الصحية، وإطلاق الوظائف أي تحقيق الرفاه الاقتصادي.
 
والثاني: تمويل صناعة السلاح وأبحاث الفضاء ثم الحرب في كل من العراق وأفغانستان وإدارة القواعد العسكرية الأميركية المنتشرة في كل العالم تقريبا وأخيرا الحرب على الإرهاب.
 
ولقد أتى الهدف الأول على كل موارد الدولة الأميركية لأنها أهداف تفوق قدرات الاقتصاد الأميركي بخمس مرات أي إن ما تستهلكه العائلة الأميركية في المتوسط يعادل خمس مرات ما تنتجه على سلم الناتج الإجمالي العالمي، وضع جر الحكومة إلى العجز في الموازنة خلال عشرات السنين حتى بلغ في آخر رقم نشرة الإحصاء الأميركي 1.5 تريليون دولار كي يدشن مرحلة "قيد المديونية". أما نفقات التسلح لمواجهة أعداء وهميين لأميركا يسمحون لها بتحقيق أسطورة "شرطي العالم"، وتمويل الوجه الوظيفي لقانون محاربة الإرهاب فيذكرنا ما وقع لدولة مصر العربية العام 1899 عندما دفعت بها بريطانيا في عهد اللورد كرومر لصناعة عدو جديد اسمه "السودان" وألقت بها في أتون الاستدانة حتى أفلست.
 
تعيش أميركا اليوم وضعا مشابها سيحتم على الدول الدائنة لها استشعار إفلاسها مما يدفع بها إلى تقليص القروض الجديدة، وستعمد أسواق المال إلى رفع سعر الفائدة كمؤشر على ارتفاع نسبة الخطر في الديون الأميركية، وستقوم شركات التصنيف الائتماني بتخفيض درجة الأمان في الاقتصاد الأميركي مما يقلل من الثقة في الدولار الأميركي.
 
وقد بدأت دول عدة في تحويل احتياطيها من الصرف الأجنبي من الدولار إلى اليورو مما يفسر لنا تراجع نسبة الدولار في الاحتياطيات الدولية من 60.4% إلى 60% العام الجاري.
 
وهكذا من المحتمل أن تدخل أميركا في أزمة اقتصادية هيكلية أخطر من الأزمة المالية لأنها سترفع من سعر الفائدة في السوق الداخلية كاستجابة فورية لمزيد من الاقتراض مما يعيق الاستثمار ويرفع من نسبة البطالة والتضخم في آن واحد.
 
كما ستقلص أميركا من نفقاتها العسكرية بالخارج تحت ضغط عدم جاهزية الناخب الأميركي للتضحية بمكاسب التخفيف الجبائي. ولكنها في نفس الوقت ستستثمر أميركا في موقعها المتقدم على خارطة الاقتصاد العالمي بتكريس "الدولرة" وتصدير أزمتها لبقية العالم من خلال طبع الدولار مستفيدة من لوائح صندوق النقد الدولي والبنك العالمي التي تعطي للعملة الخضراء حق الفيتو الاقتصادي ولكن ضد كل العالم هذه المرة.
 
ثروة الأمم
توصف الحالة الأميركية بحالة "اللاتوازن" بين سوق السلع والخدمات من جهة وسوق النقود من جهة ثانية، وهي حالة تنجم عادة عن سوء استخدام الموارد بين الإمكانيات المتاحة وأهداف السياسة الاقتصادية، كما تنجم عن السيولة المضاعفة بفعل سعر الفائدة -الربا- حيث يفاقم متغير الزمن الفجوة بين حجم السلعة وكمية النقود.
 
في هذه الحالة تتضخم الكتلة الاسمية للنقود لتأكل من قيمتها الحقيقية وتشعل لهيب الأسعار وتتجلى في البيانات المحاسبية. هذا ما يفسر الدين العام الأميركي في علاقته بحجم الناتج المحلي الإجمالي، ولهذا أيضا دافع الرئيس الأميركي مؤخرا من أجل رفع سقف نسبة الدين العام إلى الناتج والمسموح به في السياسة الاقتصادية الأميركية وفي ذلك دليل على حدود الناتج الذي يقاس بالموارد المحلية بينما يسمح الاحتياطي العالمي من النقد الأجنبي بمزيد من ضخ السيولة في الداخل الأميركي مدعوما بأسعار فائدة عالية يدفع ثمنها في آخر المطاف الناخب الأميركي بالدرجة الأولى ولو على المدى المتوسط، وفي الدرجة الثانية جميع الدول المرتبطة بالدولار في جانب التصدير وعلى رأسها دول النفط والمعادن والخدمات المالية.

"
من المحتمل أن تدخل أميركا في أزمة اقتصادية هيكلية أخطر من الأزمة المالية لأنها سترفع من سعر الفائدة في السوق الداخلية كاستجابة فورية لمزيد من الاقتراض مما يعيق الاستثمار ويرفع من نسبة البطالة والتضخم في آن واحد

"

الفقر يغير مكانه
أبدى الرئيس الأميركي في فرص ظهوره الأخيرة تشاؤما واضحا بخصوص مستقبل الدين العام على كاهل أقوى اقتصاد في العالم على الإطلاق. وقال رجل الديمقراطيين الأول بأن استمرار حالة التجاذب بين الحزبين الكبيرين في مجلس الشيوخ حتى الثاني من أغسطس/آب الجاري يعني تعثر واشنطن عن سداد ما عليها من ديون سيادية تجاه كل من الصين واليابان والعربية السعودية ودول أخرى وتجاه أسواق المال التي قامت بضبط تصنيفها للاقتصاد الأميركي نحو الأدنى لأول مرة في التاريخ.

 
وإذا استمرت وضعية التجاذب بين أطراف الصراع الحزبي في واشنطن تحسبا لربح معركة الرئاسيات العام 2012 فلن يقر مجلس الشيوخ أي قانون جديد يرفع من سقف الاستدانة من جديد  مما يرشح أميركا لحالة التعثر عن سداد ديونها، ويضع الناخب الأميركي وجها لوجه أمام صعوبات التمويل سواء تعلق الأمر بأجور الموظفين أو منح المتقاعدين أو التحويلات الاجتماعية أو مخصصات الرعاية الصحية أو مستحقات القروض العامة.
 
وفي نفس الوقت ستتوقف الخزانة الأميركية عن سداد أقساط الديون وفوائدها مما يجعلها عرضة لإعادة الجدولة بأسعار فائدة أعلى أو تعلن إفلاسها وهذا مستبعد على خلفية المركز الاقتصادي الذي ما زالت أميركا تحتله عالميا.
 
من الناحية التقنية يمكن لأوباما استخدام جزء من صلاحياته في التشريع بالقرارت التنفيذية دون المرور على الكونغرس أو مجلس الشيوخ لأجل الرفع من نسبة الدين العمومي إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى سقف 80% أو 85% ولو أن ذلك يؤدي إلى العودة مرة ثانية لأسواق المال وطرح سندات الخزانة بأسعار فائدة أعلى مما سيؤثر سلبا على قيمة الدولار ويحد من نجاعة السياسة النقدية الأميركية في حفز الاستثمارات الداخلية، وفي الخارج سيعصف بالقيمة الحقيقة للتوظيفات الأجنبية في سندات الخزينة الأميركية مما سيدفع بالدول المستثمرة في تلك السندات إلى طرحها للبيع لقاء خسائر كتلك التي تكبدتها البنوك وصناديق الاستثمار والمدخرون الصغار في حالة تدافعها لبيع الأسهم بين عامي 2007 و2008.
 
في نجدة الاقتصاد الأميركي
في نفس الوقت تطبق واشنطن خطة تقشف عاجلة في المصاريف العمومية دون المساس بمصالح الشركات والمستثمرين الذين يجدون دعما مستمرا من الحزب الجمهوري. ويمكن لأوباما الاستنجاد باللوبي الصهيوني الذي يستحوذ على ذهب أميركا والأوراق المالية في وول ستريت لقاء أوراق سياسية أخرى تدخر لإدارة الصراع في الشرق الأوسط مستقبلا.
 
وهناك نافذة صغيرة يمكن للإدارة الأميركية الاستئناس بها وتخص الصناديق السيادية في دول الخليج في مقابل السهر على حماية تلك البلدان من أي ثورات محتملة.
 
وغير ذلك بوسع أميركا تكرار مشهد خطة "بولسن" الشهيرة في نوفمبر 2008 وتعني ضخ السيولة بواسطة خلق الائتمان واشتقاق الدولار، وفي هذه الحالة سيتعرض الاقتصاد الأميركي لصدمة تضخم وركود لا أحد يستطيع التكهن بآثارها، خاصة أن نفس الاقتصاد لا يزال يعاني من تداعيات الأزمة المالية الأخيرة.
 
وفي جميع الأحوال الممكن تصورها سيدفع المواطن الأميركي الثمن غاليا بسبب سلوكه الاستهلاكي الذي جعله ينفق ما حجمه خمس مرات ما ينتج، وبسبب أخطاء المنظرين الاقتصاديين للبيت الأبيض في مقايضة الأهداف السياسية -وعلى رأسها الفوز بمنصب الرئيس- بسياسة التوسع في الإنفاق خارج دائرة القيود المالية أي الموارد المحلية.
 
دور القوى الصاعدة
أثبتت الوضعية المالية لأول اقتصاد في العالم أن أزمة الديون العامة تهدد بالفعل استمرار الدول بسبب تأثيراتها المباشرة على أوضاع النمو والتوسع في الاقتصادات الغنية فضلا على الوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها من جهة وتجاه الدائنين من جهة ثانية.
 

"
سيدفع المواطن الأميركي الثمن غاليا بسبب سلوكه الاستهلاكي الذي جعله ينفق ما حجمه خمس مرات ما ينتج، وبسبب أخطاء المنظرين الاقتصاديين للبيت الأبيض في مقايضة الأهداف السياسية بسياسة التوسع في الإنفاق خارج دائرة القيود المالية

"

فأميركا  تنفق 400 مليار دولار شهريا لصالح الناخبي ، وتدفع سنويا تسعين مليار دولار لقاء الفوائد على السندات وبقية الأوراق المالية، وهي أرقام هائلة  تتطلب -للايفاء بها- مستوى عاليا لإجمالي الناتج المحلي لن تحققه أميركا في المدى القصير ولا المتوسط.

 
وما يعقد المعادلة أكثر هو تداعياتها على الدول المرتبطة عملاتها بالدولار أي الدول الخليجية، والدول المصدرة بالدولار أي الدول النفطية والدول الدائنة لأميركا أي الدول المكتتبة في سندات الخزانة الأميركية، وتلك الدول التي تعيش على المساعدات الخارجية مثل كثير من الدول الفقيرة. آثار تفرض على تلك الدول التي تبدو خاسرة ضبط علاقاتها الاقتصادية والمالية مع الدول الغنية على سلم الاستقلال أولا، والتنظم في شكل تكتلات جديدة ذات معنى في النظام النقدي والاقتصادي الدولي.
حقيقة، بدأت الدول الكبرى تفقد تأثيرها على القرارات السيادية للدول الأقل نموا تحت ضغط أوضاعها الاقتصادية المتأزمة بما يسمح لتلك الدول بانتهاج سياسات إنتاجية واستثمارية بعيدا عن "التقسيم الدولي للعمل" أي بعيدا عن تأثيرات "المركز الرأسمالي".
 
وفي هذه الحالة تبرز الحاجة إلى تحويل الفوائض المالية للدول النفطية الموظفة خارجيا إلى استثمارات داخلية، وإلى إطلاق "اتحاد اقتصادي عربي" للاستثمار في مشروعات التنمية المحلية، وإلى التحالف مع القوى الاقتصادية الصاعدة لبناء نظام اقتصادي دولي بديل وجديد.
 
أما على المدى القصير فيحسن تحويل الاحتياطيات من الصرف الأجنبي إلى سلة أخرى من العملات المنافسة غير الدولار، والتوجه نحو بدائل سندات الخزينة للدول الصناعية أي إلى "الصكوك الإسلامية" وسندات الدول الإسلامية الصاعدة: تركيا وماليزيا مع احتساب درجة المخاطرة على رأس المال في كل الأحوال.
 
ما يقوله الإسلام
وفيما روي عن الفاروق عمر رضي الله عنه قوله "اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم"، ويتداول في كلام المسلمين: "عش في حدود يومك"، ومعنى ذلك أن أي إنفاق للعون الاقتصادي في ظل الهدي الإسلامي يظل مقيدا بالإمكانيات الحالية أو المستقبلية المضمونة حقا.
 
 
ولهذا تشتق الصكوك الإسلامية بناء على ما يقابل قيمتها من الأصول المضمونة فعلا، ويحرم في الإسلام اشتقاق الديون أو بيعها لأن ذلك يعني سيولة نقدية غير مضمونة المقابل، وهو عين ما وقع فيه الاقتصاد الأميركي منذ أن فتحت واشنطن على نفسها أبواب جهنم خارج حدودها أي في كل من العراق وأفغانستان وفي قواعدها العسكرية في كل القارات. 
 
كما فتحت على نفسها أبواب "اقتصاد الرفاه" دون أن تفكر في أساسيات هذا النوع من الاقتصاد أي في متوسط إنتاج الفرد من الثروة القومية.
 
ربما ستؤدي الأزمة المالية الأميركية القادمة إلى إعادة النظر في نظرية الاقتصاد السياسي وفي أدبيات توازن الأسواق التي تروج لها حاليا المدرسة "النقدوية" ومقرها في شيكاغو أي في الداخل الأميركي، وربما عاد ساركوزي الرئيس الفرنسي إلى طرح فكرته عن نظام نقدي عالمي جديد يحمي الاقتصادات الكبرى من مخاطر السقوط، ولو أن السقوط في مسار الحضارات يبدأ في اللحظة التاريخية التي يتخلى فيها الإنسان عن القيم الإنسانية وسنن الله. 
_____________________
كاتب جزائري
المصدر : الجزيرة