عودة الحياة لقصور المدينة العتيقة بتونس

الثقافة.. ترياق حياة لـ"قصور" المدينة العتيقة بتونس (1)
التونسيون والأجانب يقصدون "القصور" لمتابعة فعاليات ثقافية وفنية باتت وتيرتها أكثر كثافة في السنوات الأخيرة (الأناضول)

إلى وقت قريب، كان السكون يلف "القصور" القديمة بالمدينة العتيقة في قلب العاصمة التونسية، حتى أن زوارها يكتفون بالتوقّف أمامها برهة، يتأملون زخرفة معمارية تنوء تحت ثقل الزمن، وتكابد من أجل استعراض تاريخ المكان.

غير أن ما يشد الانتباه اليوم هو عودة الحياة إلى تلك القصور، التي كانت بنايات متداعية للسقوط، حيث تدفقت في أرجائها دماء التجديد، فكان أن استعادت أمجاد الماضي في نسخة معاصرة يمتزج فيها عبق التاريخ بتطورات الحاضر.

فاليوم، أضحت تلك القصور مكانا يقصده التونسيون والأجانب لمتابعة فعاليات ثقافية وفنية باتت وتيرتها أكثر كثافة في السنوات الأخيرة.

كتب التاريخ تشير إلى أن المدينة العتيقة بالعاصمة التونسية شيّدت على يد القائد الإسلامي حسان بن النعمان عام 82 هـ/ 701 م، على أنقاض قرية قديمة تسمى "ترشيش".

الباحث التونسي في الآثار لطفي الرّحموني استعرض عددا من تلك "القصور"، التي تعدّ الأقدم بالمدينة العتيقة، بينها "مدرسة السّليمانيّة"، و"دار الأصرم"، و"دار الدولاتلي"، و"قصر ابن خلدون" و"دار بودربالة"، و"مدرسة بئر الأحجار"، و"نادي الطاهر الحدّاد" و"دار المدينة"، وغيرها.

الرّحموني تطرق بالخصوص إلى "دار الدّولاتلي" الواقعة في نهج "الدّريبة" قرب جامع الزيتونة بالمدينة العتيقة، باعتبارها مقر "المعهد الرّشيدي للموسيقى التّونسية" أو "المدرسة الرّشيديّة"، كما تسمى محليا، وهي معهد للموسيقي تأسس عام 1934 لإحياء "الإرث الرّشيدي".

كلمة "الدّولاتلي" التّركية تعود إلى أصل عربي مشتقّ من لفظة (دولة)، وترمز إلى الشّخص الذي يحكم العاصمة بالاستعانة بقوات الشّرطة، فيعمل داخل قاعة تسمّى "الدّريبة"، توجد في الطّابق العلوي من قصره

محمد الرّشيد باي
وسمي المعهد بهذا الاسم نسبة إلى محمد الرّشيد باي، ثالث ملوك العائلة الحسينية (1710-1759)، وهو أحد الأدباء والفنانين الذين ظهروا في القرن 18 الميلادي في تونس، وكان شاعرا مولعا بالموسيقي التونسية والعزف، وبتطعيم الموسيقى التّونسية بنظيرتها التركية إيقاعا ومقاما.

وتعود كلمة "الدّولاتلي" التّركية إلى أصل عربي مشتقّ من لفظة (دولة)، وترمز إلى الشّخص الذي يحكم العاصمة بالاستعانة بقوات الشّرطة، فيعمل داخل قاعة تسمّى "الدّريبة"، توجد في الطّابق العلوي من قصره، وفق الباحث.

وأشار الرحموني إلى أنّ الرّشيدية ظهرت خلال الفترة التي كانت فيها تونس خاضعة للاستعمار الفرنسي (1830-1956)، فاعتبرت مشروعا ثقافيا يرمي لحماية الخصوصية والهوية التونسية من الذّوبان أو الانسلاخ عن الطابع العربي الإسلامي.

واقترن تاريخ تأسيس الرشيدية (ثلاثينيات القرن الماضي) بتاريخ تصاعد العمل النضالي على مختلف الجبهات والأصعدة الفكرية والعلمية، خاصة عقب تنظيم مؤتمر "الافخارستي"، في 1930، بضاحية قرطاج (شمال العاصمة)، الذي كان يدعو التونسيين إلى اعتناق المسيحية تحت رعاية المستعمر الفرنسي.

واعتبر الباحث أن الرشيدية نحتت شخصية الموسيقى التّونسية، وذلك بتوثيق الدّروس الفنية الرّاقية التي كان يقدمها شيوخ الموسيقى التّونسية، مثل خميس الترنان (المغني والملحّن/ 1894-1964)، وأحمد الوافي (الموسيقي/ 1850-1920).

‪المولحي: للبناءات العتيقة سمة تشير إلى خصوصية البيئة الثّقافية لسكانها ومكوّناتها الشكلية‬ (الأناضول)
‪المولحي: للبناءات العتيقة سمة تشير إلى خصوصية البيئة الثّقافية لسكانها ومكوّناتها الشكلية‬ (الأناضول)

مركز إشعاع
وبمرور الوقت، أضحت الرّشيدية مركز إشعاع يسعى إلى توسيع فضاءات العروض، بالتّعاون مع "دار الأصرم" و"دار حسين" و"مدرسة بئر الأحجار".

رئيس هيئة المعهد الرّشيدي بتونس محمد الهادي المولحي قال إن قصور المدينة العتيقة تميزت بطرق فريدة في التّصميم، مما ولّد إيقاعا بصريا يلهم كل من يزوره، وذلك بمفعول التّناغم بين اللّون والحركة التي أضفت سحر الفسيفساء المستلهمة من الحضارتين الحفصية (1228-1573)، والعثمانية (1574- 1956).

واعتبر المولحي أن للبناءات العتيقة سمة تشير إلى خصوصية البيئة الثّقافية لسكانها ومكوّناتها الشكلية، والمتمثّلة أساسا في السّقيفة أو العتبة الّتي يحجبها باب ضّخم تعتليه "خُمسة" مستعارة من اليد المتكوّنة من خمسة أصابع، التي تعلق غالبا للتبرّك والتيمّن.

ويقول المولحي إنّ "المعطى المعماري يشكّل ركيزة انبعاث الحسّ الذّوقي، حيث الجدران الحجرية المعتّقة، والأرضية الرّطبة، والنّوافذ الحديدية، والسّقف الخشبي الملوّن، والقباب العالية الّتي تخترقها الأضواء، فترمي بظلالها على أعمدتها المكلّلة تيجانا محفورة بأعرق النّقوش.

المصدر : وكالة الأناضول