جاك لانغ: معهد العالم العربي جسر التقاء الشرق بالغرب
حاوره/ هشام أبو مريم-باريس
احتفل معهد العالم العربي في باريس قبل أشهر بالذكرى الثلاثين لإنشائه. وتحولت هذه المؤسسة التي رأت النور في عهد الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران إلى معلم ثقافي يستقبل الفنانين والمفكرين من كل أنحاء العالم العربي والأوروبي لعرض أفكارهم وإبداعاتهم.
وشهد المعهد منذ خمس سنوات حركية كبيرة، وخرج من أزمته المالية التي كانت تشله بعد تعيين وزير الثقافة الفرنسي الأسبق جاك لانغ على رأس المؤسسة.
ويعتبر لانغ معهد العالم العربي تحفة معمارية ومعلم ثقافي فريدة من نوعها في العالم، وأنه ساهم بشكل كبير في التعريف بالفن والثقافة والحضارة العربية في أوروبا.
ماذا يمثل معهد العالم العربي في باريس على مستوى المشهد الثقافي الفرنسي بعد احتفالكم قبل أشهر بالذكرى الثلاثين على تأسيسه؟
المعهد يعتبر معلما ثقافيا لا مثيل له في العالم، لأنه يضم متحفا ثريا ومكتبة تعتبر الأكبر على الصعيد الأوروبي حول العالم العربي ومركزا لتعليم اللغة العربية.
كما أن المعهد يشهد عشرات الندوات الفكرية والعلمية حول العالم العربي والإسلامي، إلى جانب تقديم عروض مسرحية وأمسيات شعرية وموسيقية مختلفة ومتنوعة.
عندما كنت وزيرا للثقافة في عهد الرئيس الراحل فرانسوا ميتران، أقنعته بأهمية هذا المعلم من أجل بناء جسور الحوار والتلاقح الثقافي الحضاري بين العالم العربي وفرنسا، ورحب بالفكرة. ومنذئذ أصبح للفرنسيين والأوروبيين مكان معروف في قلب باريس من أجل التعرف عن قرب على الحضارة العربية الإسلامية التي أبدعت وقدمت الكثير للإنسانية في كل المجالات.
وتحول المعهد مع مرور السنوات إلى قبلة للثقافة والفن على الصعيد الأوروبي والعالمي، ويزوره أكثر من مليون شخص سنويا.
خلقتم حركية بالمعهد منذ توليكم رئاسته، خصوصا أنه كان يعاني مشاكل إدارية ومالية. ما أبرز الانجازات التي تفخرون بها؟
هذا صحيح. منحت أولوية كبيرة بعد تعييني على رأس هذه المؤسسة لإعادة هيكلة وتنظيم المعهد، إضافة إلى ايجاد حل للأزمات المالية التي كانت تعصف به، وذلك من خلال تسيير عقلاني للمؤسسة والبحث دون كلل على تمويل سنوي وبشكل منتظم من الحكومة الفرنسية والدول العربية المساهمة وبعض الصناديق الخاصة.
ويمكنني أن أؤكد لكم أن المعهد تجاوز كل مشاكله المادية، وتعافى بشكل نهائي من أزماته المالية.
أما بالنسبة لأكبر الإنجازات المحققة خلال السنوات الأربع الماضية فهي عديدة ولا تحضرني كلها، لكن أبرزها والتي أفتخر بها هي معرض مناسك الحج، ومعرض الإسلام في أفريقيا، وأخيرا معرض عن ألفي سنة من المسيحية في الشرق، وعرف نجاحا باهرا وزاره أكثر من مئة ألف شخص.
كما أنني سعيت منذ قدومي إلى تطوير التعاون بين المعهد والمؤسسات الثقافية في دول الخليج، على اعتبار أنه من قبل كان التعاون كثيفا ومركزا فقط مع دول المغرب العربي.
وهل هناك مشاريع ثقافية بين معهد العالم العربي ودول الخليج؟
نعم، استقبلت قبل أيام سمو الشيخة المياسة بنت حمد بن خليفة آل ثاني، مديرة متحف قطر الوطني، ووقعنا اتفاقيات مشتركة، بينها تنظيم معرض عن قطر وآخر يتضمن معرضا مشتركا وعملا فنيا يضم أهم القطع النادرة والمقتنيات التي تعود ملكيتها لمتحف قطر. كما أن المعهد يستعد لتنظيم مشاريع ثقافية وفنية مع السعودية.
تعتبرون إحدى الشخصيات الفرنسية القليلة المدافعة عن تعليم اللغة العربية في فرنسا. ومنذ توليكم رئاسة المعهد أطلقتم برنامجا طموحا لتعليم اللغة العربية. هل لكم أن تحدثونا عنه، وماذا تحقق منه؟
تعتبر اللغة العربية لغة كونية ولغة القرآن ولغة حضارة كبيرة. كما أن فرنسا لها علاقات كبيرة وتاريخية مع العالم العربي، وهذا الأمر يستدعي الاعتناء باللغة العربية وتعليمها لأبنائنا في فرنسا.
أنا فخور لأن المعهد يولي أهمية كبيرة للغة العربية وتعليمها للصغار والكبار من خلال برنامج تعليمي ذي جودة عالية.
هذا البرنامج يلقى نجاحا منقطع النظير، حيث إنه لم يعد باستطاعتنا تسجيل المزيد من الطلبة واضطررنا لاستئجار قاعة من الجامعة المحاذية للمعهد لتلبية طلبات جميع الراغبين بتعلم اللغة العربية.
كما أننا نستعد لإطلاق مشروع طموح، وهو عبارة عن شهادة دولية في اللغة العربية، بحيث سيجتاز الطلبة امتحانا يقيس قدراتهم في استخدام وفهم اللغة العربية قراءة وكتابة وسماعا وتحدثا. البرنامج يشبه امتحان "التوفل" في اللغة الإنجليزية.
باعتباركم وزيرا سابقا للتربية والتعليم، كيف تفسرون تهميش تعليم اللغة العربية في المدارس الحكومية مقارنة باللغات الأخرى؟
عندما كنت وزيرا للتربية والتعليم، سعيت جاهدا إلى إدراج اللغة العربية منذ المستوى الابتدائي، كما رفعت من عدد أساتذة اللغة العربية في فرنسا. لكن للأسف الوزارات المتعاقبة لم تواصل على النهج نفسه.
التقيت بوزير التربية والتعليم الحالي جان ميشيل بلانكير وأكدت له ضرورة إعطاء أهمية كبرى لتعليم اللغة العربية في المدراس الفرنسية من المرحلة الابتدائية حتى المستوى الجامعي، وأكد لي أنه يوافقني الرأي.
بالنسبة لي أعتبر اللغة العربية كنزا عالميا وذات أهمية مثلها مثل اللغة الإنجليزية، لهذا يجب الاعتناء بها وتوفير كل الظروف الملائمة لتعليمها، وعلى كل من يتعلمها أن يكون فخورا بذلك.
ما رأيكم في استخدام بعض التيارات السياسية لمبدأ العلمانية لاستهداف المسلمين في فرنسا، إضافة إلى بعض التيارات المتطرفة والعنصرية التي ترفض الاعتراف بوجود ثقافة إسلامية في فرنسا؟
هناك بعض التيارات اليمينية التي تستخدم العلمانية لشيطنة الإسلام والمسلمين، وهذا أمر مرفوض وأستنكره بشدة. العلمانية -عكس ما تزعمه هذه التيارات المتطرفة- تهدف لحفظ حرية العبادة والمعتقد لكل المواطنين واحترام شعائرهم دون تمييز.
الدين الإسلامي دين تسامح وتعايش، وعلى الحكومة الفرنسية أن تحفظ وتصون أماكن العبادة الخاصة بالمسلمين وتحميهم وتوفر لهم الظروف المواتية للقيام بشعائرهم في ظروف حسنة، من خلال بناء مزيد من المساجد وأماكن العبادة وإنشاء معاهد خاصة لتكوين الأئمة في فرنسا.
أما التيارات العنصرية التي تنشط خصوصا على وسائل التواصل الاجتماعي وترفض وجود ثقافة عربية إسلامية في فرنسا، فهؤلاء قلة من العنصريين الذين يكنون العداء للإسلام والمسلمين لأسباب أيديولوجية وسياسية، ويجب محاربتهم بالقانون أمام القضاء.
تعتبرون أيضا من المدافعين عن القضية الفلسطينية. هل تعتقدون أن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بشأن القدس ينسف كل أمل بشأن قيام دولة فلسطينية؟
قرار الرئيس الأميركي بشأن القدس أمر مرفوض ومستهجن وأستنكره بشدة لأنه انتهاك صارخ للقرارات الدولية، ويقضي على حل الدولتين. ما قام به الرئيس الأميركي هو اعتداء جديد على حقوق الشعب الفلسطيني.
إنه أمر مؤسف أن تدخل إسرائيل في هذه اللعبة المقيتة وتحاول بدورها الالتفاف على حقوق الفلسطينيين وتتخلى عن حل الدولتين.
يجب على المجتمع الدولي، خصوصا الجامعة العربية والاتحاد الأوروبي، أن يتحرك من أجل أن تستعيد القضية الفلسطينية وهجها من جديد وتعود قضية مركزية، لأنها باتت منسية ومهمشة حتى في العالم العربي.
نحن هنا في المعهد نحاول أن تبقى فلسطين حاضرة بقوة من خلال تنظيم لقاءات وندوات ومعارض. ويوم الجمعة المقبل سأقوم بمعية سفير فلسطين لدى اليونسكو بافتتاح "متحف فلسطين في المهجر".
ما رأيك في الموقف الفرنسي من القضية الفلسطينية الذي يدعو إلى حل الدولتين ولكن يرفض الاعتراف بدولة فلسطين؟
إذا أردنا أن يتحقق حلم الدولة الفلسطينية أعتقد أنه يجب عدم الانجرار وراء خطوات أحادية الجانب. ماذا ستجني فلسطين لو اعترفت بها فرنسا، وحكومة نتنياهو كل يوم تحتل وتستولي على مزيد من الأراضي الفلسطينية.
قبل الاعتراف بالدولة الفلسطينية من طرف أحادي الجانب، أعتقد أنه يجب على فرنسا وعلى الاتحاد الأوروبي اتخاذ إجراءات حازمة ضد بنيامين نتنياهو، من أجل وضع حد للانتهاكات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية وعلى رأسها وقف سياسة الاستيطان المتواصلة التي تلتهم كل يوم ما تبقى من الأراضي الفلسطينية.
إسرائيل تسعى إلى تقطيع أوصال ما تبقى من فلسطين من أجل القضاء على أي أمل بقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات حدود جغرافية، ولا أفهم هذا الصمت المعيب للاتحاد الأوروبي والدول العربية إزاء كل الانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني.
في خضم الأزمة الخليجية، استخدمت بعض الدول وعلى رأسها الإمارات كل الوسائل بما فيها الثقافة والفن من أجل استهداف قطر، حيث ألغى متحف اللوفر بأبو ظبي قبل أسابيع خريطة قطر قبل أن يتحول الأمر إلى فضيحة. ما تعليقكم كرجل ثقافة وفن على القضية؟
هذا أمر مؤسف، وقد جرى تصويب الخطأ وهذا أمر جيد. باعتباري صديقا للعالم العربي، أتمنى أن تعود المياه إلى مجاريها ويتصالح الأشقاء في دول الخليج فيما بينهم.
(يبتسم) يطلقون عليّ اسم "جاك العرب" في إشارة إلى لورانس العرب. لهذا أقول لدول الخليج من باب النصيحة كصديق للعرب "تحابوا فيما بينكم فإن في الاتحاد قوة".
ما رأيكم في ظروف انتخاب الرئيسة الجديدة لمنظمة اليونسكو أودري أزولاي، والحملة التي شنتها بعض الدول العربية على مرشح قطر من أجل إجهاض فوز كان محققا؟
للأسف، كان الفوز سيصبح عربيا ومن نصيب مرشح قطر حمد بن عبد العزيز الكواري الذي يتمتع بسمعة ممتازة ويملك كل المؤهلات لتولي هذا المنصب الرفيع، لكن الانقسامات بين مختلف الدول العربية كانت قاتلة وحالت دون ذلك. وهذا أمر محزن ومؤسف.