"هنا الوردة".. جدلية الثورة والعنف برواية أمجد ناصر

غلاف رواية "هنا الوردة"
جمال شحيّد*

لا صلة لهذه الرواية الصادرة عن دار الآداب في بيروت 2017 (المدرجة في القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية) برواية "اسم الوردة" لأمبرتو إيكو، لأن أجواءها مختلفة جدا عن الأجواء القروسطية التي أتى بها الكاتب الإيطالي.

نقرأ في بداية الرواية تنويها يقول "إن هذه الرواية، مكانا وشخوصا ووقائع، عمل تخييلي، وكل محاولة لمطابقتها بواقع ما مضيعة للجهد والوقت".

ولكن القارئ فضولي بطبيعته يروم مشابهة الأحداث وربطها زمانا ومكانا، ولو بشكل تقريبي، مع أن السهروردي -الذي يستشهد به الروائي – يتكلم عن "بلاد اللاأين".

ينحدر يونس الخطاط "الصغير" من عائلة خطاطين، أبا عن جدّ. كان جدّه نور الدين "يتألق في خطه مطبوعات الحركة الإصلاحية… كان يخط كتابات الإصلاح التي أخذت تنحو شيئا فشيئا صوب الاستقلال وانبعاث الأمة من رقادها، كأنه يصنع تاريخا. وكان يشرف على المجلة السرية التي كان يحررها أفراد هذه الحركة الإصلاحية، في عهد الإمبراطورية العثمانية التي انفرط عقدها في مدينة السندباد".

ولكن هذا الجد يصاب في شيخوخته بالفالج الذي عطّل يده اليمنى وقضى على الخطاط الشهير. وكان الوالد أيضا خطاطا ومتصوفا معروفا، وكان يجمع في صالونه "طيفا من المهتمين بالفنون والآداب التراثية. الكنوز الذهبية للأسلاف التي يليق بها المتحف أكثر من أي مكان آخر".

وغالبا ما دار الحديث فيه عن "ابن مقلة والبوّاب والآمدي والبغدادي، من أرباب الخط قديما وحديثا، وعن دور الإمبراطورية -برأي الأب- في الحفاظ عليه وتطويره باعتباره فنا مقدّسا".

وورد في الحديث أيضا كلام عن السهروردي والحلاج والشيخ الأكبر، والحب الإلهي والحب الأرضي.

‪الكاتب الأردني أمجد ناصر في معرض الدوحة الدولي للكتاب‬ (الجزيرة)
‪الكاتب الأردني أمجد ناصر في معرض الدوحة الدولي للكتاب‬ (الجزيرة)

وسمّي الابن يونس -بطل الرواية- بـ"الخطاط" مجازا دون أن يمارس مهنة جدّه وأبيه؛ بل كان شاعرا ويعتبر عملهما تراثيا، "فالطباعة والمكننة والتقنيات الحديثة هي السائدة في المهن الكتابية"، "صار يرى في أعمال أبيه في الخط انغلاقا في عالم سابق لن يعود. زمن يجرجر نفسه بالقوة في الوقت الراهن" (ص 197).

حبكة الرواية سياسية بامتياز، وهي قصة صراع مستميت بين الحفيد الملقب بجابر عثرات الكرام وبين تنظيم يساري يسعى إلى إسقاطه واغتياله.

تبدأ الرواية بوصول يونس "الخطاط" إلى فندق في مدينة السندباد، وانتظاره ثلاثة أيام وصول رفيق في التنظيم اسمه مروان ليسلمه رسالة هامة.

ذروة الانصهار
ويقول النص عن يونس إنه "كان في ذروة انصهاره في الفكر الذي سيغيّر العالم، الذي يتصادم، بلا هوادة، بلا رأفة، بكل ما يؤمن به محيطه، تقريبا. الأصول والأنساب والعادات والتراث المكتوب بماء الذهب. كل تلك الاعتبارات، في نظره، من صنع العالم القديم، وهذا عالم لا يرغب، بعدُ، في الانتماء إليه" (ص 17).

ويصل مروان أخيرا ويأخذه لمقابلة الأمين العام للتنظيم، حاملا له تلك الرسالة التي أخفيت في إحدى فردتي حذائه.

أثناء العشاء دار حديث عن أحوال البلاد: انفتاح اقتصادي، ارتفاع كبير في الأسعار، بروز طبقة من رجال الأعمال يسميهم النص بـ"حيتان السوق".

كأني بأمجد ناصر يريد أن يقول إن التغيير لا يتم بالعنف الثوري بل بتهيئة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي تخلق حسا بالمواطنة وتحضّر للتغيير السلمي العتيد

وتكررت في الحديث مفردات يسارية: الكومبرادور، الطفيلية، البورجوازية الصغيرة، البورجوازية البيروقراطية

وتكلموا أيضا عن الحفيد الحاكم وعن التحضيرات الجارية للاحتفال باليوبيل الفضي لتنصيبه، بعد تعرّضه لمحاولة اغتيال فاشلة اتخذت أجهزة أمنه بعدها عددا من الإجراءات: إغلاق بعض الجرائد المعارضة (جريدة الأمّة مثلا)، وراحت تطلق عليه سلسلة من الألقاب (القائد، الأب، الزعيم المفدى، الابن البار للوطن…)، وبثت عددا من الأغاني تمجده، كما ألصقت صوره في كل مكان وزرعت تماثيله في الساحات العامة وأمام المؤسسات والمنشآت.

ولكنه ضاق ذرعا "من تزلف المتزلفين ونفاقهم" فأمر بإيقاف الأغاني وإزالة الصور، غير أن المكتب الفني لديوانه أقنعه بضرورة عودتها قائلين له "كي لا يفسِّر المثقفون والعامة إيقافها بأنه تنازل، وسيطالبون بعد ذلك بالمزيد… هؤلاء نماريد سيطمعون فيك ولن يفهموا قصدك النبيل، وربما اعتبروه ضعفا. ننصح بالمزيد من الأغاني والأوبريتات والصور. حضرتك ينبغي أن تكون في كل مكان، في كل وقت. فهذا جزء من سلطتك الخفية التي ينبغي أن تتسلل، من دون أن يعوا ذلك، إلى عيونهم وآذانهم وأدمغتهم. الصور والتماثيل والكلمات، كما أكدت تجارب كثيرة في العالم، هي التي تحكم، فسيادتك غير قادر على التواجد في كل مكان وأينما ينظر رعاياك، ولكن صورك والتماثيل والأغاني المكرسة لك تستطيع" (ص 114).

وفي أعقاب تلك المحاولة الفاشلة، تدلت حبال المشانق في ساحات الحافلات وخُطّت تحت كل رأس يميل الآيةُ الكريمة التالية "ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب". وأدت هذه الأجواء إلى عبادة الفرد على الطريقة الستالينية، فجُمع وجهاء البلاد، وبعد ساعة من الانتظار في صالة فارغة ليس فيها كرسي أو منفضة سجائر "دخل عليهم جابر عثرات الكرام بقامته المعتدلة ووجهه الأصهب، مرتديا زي المغاوير المرقّط، يتدلى مسدس من حزامه العسكري الكتاني، خلفه اثنان من حرسه الشخصي طويلا القامة، ومن دون سلام وقف في وسطهم بعدما شكلوا، على نحو تلقائي، حلقة حوله، وراح، بعينين يطير منهما الشرر، يزأر فيهم" (ص 135).

وأضاف: "تتحدثون عن الفساد؟ هل هناك من هو أفسد منكم؟ من الذي يتستر على فسادكم أمام الناس؟ … دعوني، إذن، أذكّركم أنني قادر على أن ألقي بكم إلى الشعب لكي يأكل لحمكم نيئا. فاحذروا غضبي مرة ثانية، وتذكّروا أنني لست كأبي ولا جدي. والآن انصرفوا، لأنني لا أستطيع تحمل رؤية وجوهكم اللئيمة وتذللكم الكاذب" (ص 136).

قد نجد هذه الصورة للحفيد لا في مدينة السندباد فحسب بل في عدد كبير من البلدان العربية وبلدان العالم الثالث. وقد يكون إغفال اسم الحفيد وتمويه المكان والزمان اللذين تدور فيهما أحداث هذه الرواية مؤشرا على شيوع هذه الصورة في ديار العرب.

ويسخر النص من هذا الحفيد الذي بثّ صورا كاريكاتورية له. فبمناسبة ذكرى اليوبيل الفضي للحفيد تدفق سيل التهاني على جميع وسائل الإعلام "جمعية المحراث الوطني الزراعية، مدارس الراعي الصالح، شركة الوطن للمياه المعدنية، رجل الأعمال الفلاني يهنئ القائد بذكرى استلامه الأمانة، عائلات الجنوب تجدد البيعة لرمز وحدة البلاد، اتحاد مزارعي الحبوب يضرعون إلى الله بأن يبقى علينا الأمن والأمان اللذين بسطهما القائد على ربوع البلاد" (ص 119).

الثورة والتغيير
ولم تبخل وسائل الإعلام هذه عن ذكر الوفود الحاشدة التي زارت الحفيد للتهنئة. واعتاد الشعب العربي منذ نصف قرن على تدبيج المدائح المعسولة لذوي الشأن، فازداد غرورهم وانتابتهم حمى جنون العظمة، فظنوا أنهم من سلالة الآلهة.

والحفيد الحاكم بأمره هو شخص "فوق النقد، وفوق الحكومة. الحكومات تروح وتجيء، ولكن الحفيد يبقى. المؤسسون يبقون" (ص 151). وهذا التأبيد هو الذي ابتليت به الأنظمة الشمولية التي انتشرت في أصقاع عالمنا العربي.

ويُقْدم التنظيم على محاولة اغتيال جديدة للحفيد سميّت بعملية "الذئب"، وأعلنت وزارة الإرشاد عن إصابة طفيفة لحقت بـ"الآمر" أثناء زيارته بلدات نائية في الجنوب. وشارك فيها ثلاثة من شبّان التنظيم؛ بينهم يونس الذي استطاع الفرار دون زميليه.

وبدأت خطة "الإخلاء" وترحيله إلى ناكوجا آباد ومن ثم إلى خارج البلاد.

تعيدنا هذه الرواية إلى أجواء الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين التي نشط فيها المدّ الثوري اليساري العربي وأخفق في الاستيلاء على الحكم

وقبيل الرحيل كتب يونس رسالة لزوجته رلى وسلّمها لخلف -صديق طفولته- في محطة القطارات المركزية كي يوصلها. ثم ركب يونس القطار.

وحدّث نفسه أثناء الرحلة: لماذا وقع اختيار التنظيم عليّ أنا. فأجاب نفسه: "لأنك ابن الخطاط، الرجل العَلَم في الحامية، المقرّب من مكتب الحفيد، وسليل مؤسسي الكيان الذي لا يرقى، في العادة، شك في ولائهم وإخلاصهم لسلالة الجنرال الأصهب" (ص 187). وتفاقمت وساوسه "ليست عندي حسابات من وراء انخراطي في التنظيم، فماذا سأكسب من وراء ذلك غير المخاطر وربما الهلاك (…). أنا لست ضحية لعبة لا أعرف قواعدها ولا من يدبرها، أنا لست مخدوعا. أنا لست فارس طواحين الهواء… لم يغرر بي أحد. كنت أعرف المخاطر كلها، ورغم ذلك أقدمت على ما أقدمت عليه بإيمان داخلي عميق، هذا هو دوري في حركة التاريخ مهما كان صغيرا، ومجرد شكي في ذلك يعني أن حياتي لا معنى لها، يعني أنني ألقيت نفسي في التهلكة وأنا مغمض العينين. المهم الآن أن أنجو من أيديهم" (ص 190).

بعد أن انتشرت أخبار عملية "الذئب" في الصحف والتلفزيون، قرر خلف أن يتخلص من الرسالة التي كلفه يونس بإيصالها إلى زوجته رُلى. ولكنه قرأها قبل أن يحرقها، فوجد فيها كلاما تشجيعيا يدعوها فيه إلى الصبر قبل أن يلتئم شملهما في تلك المدينة التي تطل على البحر والتي فيها دور نشر كثيرة ومعرض للكتاب ومؤتمرات للصيارفة ولأرباب الفندقة: "كان ينبغي على رسالتكَ أن تحرق. كان لازما يا صديقي".

ووصلت أخيرا سيارة المهرّبين التي تحرّكت في الليل دون أضواء. وعرف يونس أن أحد المهرّبين هو خاله أدهم. وتذكّر لوحة "وفي الليلة الظلماء يفتقد البدرُ" التي كان جده قد خططها وشاهدها هو مرارا. وعلى الطرف الآخر من الحدود كانت تنتظرهم سيارة ثانية نقلتهم إلى محطة الحافلات التي تنطلق منها سيارات الأجرة في اتجاه المدينة المطلة على البحر.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: لماذا فشلت محاولة قتل الحفيد عدة مرات، ولا سيما في عملية "الذئب"؟

كأني بأمجد ناصر يريد أن يقول إن التغيير لا يتم بالعنف الثوري بل بتهيئة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي تخلق حسا بالمواطنة وتحضّر للتغيير السلمي العتيد.

وتعيدنا هذه الرواية إلى أجواء الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين التي نشط فيها المدّ الثوري اليساري العربي وأخفق في الاستيلاء على الحكم؛ "فالشبان الذين يريدون تغيير الدنيا بجرة قلم" يعيشون وهما كبيرا، هو أقرب إلى الرومانسية. فماذا تغيّر في مصر مثلا، بعد مقتل السادات في منصة العرض؟

وتنتهي الرواية بأن اختفى الدون كيشوت العربي في دهاليز تلك المدينة المطلة على البحر.

_______________

* ناقد سوري

المصدر : الجزيرة