الزبيري شاعر يمني في بحر السياسة

تجري رياح السياسة أحيانا بما لا يشتهي الشعراء، فقد واجه الشاعر اليمني محمد محمود الزبيري (1910-1965) مأزقا إنسانيا ووطنيا عندما انفجر الخلاف في مصر بين الإخوان المسلمين والضباط الأحرار في مصر.

ناصر يحيى

في 31 مارس/آذار تحل الذكرى 51 لاستشهاد الشاعر اليمني محمد محمود الزبيري (1910-1965)، وهو أعظم شعراء اليمن في القرن العشرين دون منازع، وممن يقال فيهم إنهم ينفخون الروح في موات الحياة الأدبية!

والزبيري ليس فقط شاعرا عظيما، فقد كان كذلك مناضلا وطنيا من آباء الثورة اليمنية، ورمزا لنضالات اليمنيين في سبيل الحرية ومواجهة الحكم الفردي، ولفظ أنفاسه الأخيرة اغتيالا وهو يسعى للملمة جراح وطنه الممزق بالحرب الأهلية، وتنوير قبائل اليمن المتمردة بأن الثورة والتغيير مستقبلهم، وطوق النجاة لهم مما يعيشونه من تخلف وفقر وجهل!

يعد شعر الزبيري من طبقة رفيعة المستوى تضعه بين أمراء الشعر العربي، وإن كان قد غلب عليه الهم العام، وسخر معظم شعره ونثره لقضية الحرية في وطنه، وطغت شهرته بوصفه شاعرا ثوريا على جزء مهم من شعره ذي الطابع الإنساني، بل حتى ترجماته لقصائد محمد إقبال لم تجد اهتماما على جمالها ورقة أحاسيسها!

كثيرا ما ارتبط الشعراء بعلاقات أخوية ذات طابع إنساني نادر، وكان ذلك سببا في أن يحظى ديوان الشعر العربي بدرر من القصائد الجميلة تعبيرا عن عواطف الشعراء الجياشة لبعضهم بعضا، أو عند حدوث ما يشوب تلك العلاقات من خصام أو جفاء وهجر يعقبه عتاب جميل!

ومن هذه الصداقات كانت العلاقة الوثيقة بين محمد الزبيري والشاعر السوري عمر بهاء الدين الأميري، بعد أن جمعت بينهما الأقدار في باكستان الناشئة (1948-1952)، فالأميري كان سفيرا لبلاده والزبيري كان لاجئا سياسيا بعد فشل ثورة الأحرار اليمنيين في فبراير/شباط 1948.

ووثق الشعر والهم الإسلامي العروبي بين الزبيري والأميري، فقد كان كلاهما منتميا بشكل أو بآخر للحركة الإسلامية الإخوانية في مصر وسوريا، وحلما معا بيوم خلاص هذه الأمة مما تعانيه وتكابده.

يعد شعر الزبيري من طبقة رفيعة المستوى تضعه بين أمراء الشعر العربي، وإن كان قد غلب عليه الهم العام، وسخر معظم شعره ونثره لقضية الحرية في وطنه.

وعندما قامت ثورة يوليو 1952 بمصر، سارع الزبيري عائدا لأرض الكنانة، خاصة أن النظام الجديد كان حينها على علاقة وثيقة بأصدقائه في جماعة الإخوان المسلمين الذين كانوا أحد داعمي الثورة، وواصل فيها جهاده السياسي والأدبي، وجدد علاقاته القديمة مع الإسلاميين وفي مقدمتهم الشاعر والمجاهد الكبير سيد قطب.

عتاب.. متاب
لكن رياح السياسة تجري أحيانا بما لا يشتهي الشعراء، فقد واجه الزبيري مأزقا إنسانيا ووطنيا عندما انفجر الخلاف بين الإخوان ونظام يوليو، وهو ما نال بسببه أصدقاء الزبيري عنتا وظلما كبيرين، فتمزقت نفس الشاعر بين المختلفين، لكنه كان مهموما بقضية وطنه حتى النخاع، فآثر أن يتجنب تحديد موقف معارض من حكام مصر تقديرا لدعمهم للقضية اليمنية!

موقف الزبيري هذا لم يرض صديقه الشاعر عمر الأميري، وطال بينهما الأخذ والرد، ويبدو أن شيئا من الجفاء حلّ محل الصفاء والتفاهم، وكتب الزبيري قصيدته "عتاب ومتاب" لتفسير موقفه، وتجديد عهد أخوته للأميري الذي كانت له أياد بيض عليه يوم كان مشردا في الأرض:
         قلبي فداء المخلب الغضبان في حرم العرين
         إن شاء أدميت الجفون له ومزقت الوتين
         أنا إن فقدت رضاه تشعر عزتي أني مهين

أقر الزبيري في قصيدته الرقيقة لصديقه الأميري بفضل أخوته وتوجيهاته عليه، وجدد له الوفاء على السير في الطريق المشترك رغم الغضب واللوم الذي يوجهه له:

           أنا من عرفت ومن بلوت فلا تظن بي الظنون
           أنا شخصك الثاني ولم أمسخ إلى وحل وطين
           أنت الذي حطمت أغلالي وكنت بها رهين
           أطلقت من روحي شهابا في سماء الثائرين

ورغم الأخوة والرابطة النضالية بين الزبيري وصديقه، فإنه يؤكد اختياره أن تكون قضية وطنه ومعاناة شعبه هي البوصلة التي تحدد توجهه السياسي، وتحالفاته مع من يؤيدها بغض النظر عن كل شيء:
            أنا عشت في شعبي طوال العمر تحكمني يمين
            أعطيتها في عنفوان السن للوطن الأمين
            فأنا بهذا القيد أنّى سرت.. موثوق رهين

يسجل تاريخ اليمن المعاصر أن الزبيري رفض أن تتكرر مأساة اليمن مع الحكم الفردي تحت شعارات الثورة والجمهورية، وأبى هذه المرة أن يسكت..

مثالية شاعر
لا يخلو موقف الزبيري هنا من مثالية الشعراء، وربما هو اليأس الذي استبد بأحرار اليمن بعد توالي فشل محاولاتهم للتغيير، ولم يعد لديهم من أمل إلا دعم مصر لهم، وها هو يفسر لصديقه الغاضب عليه أسباب سكوته عن ظلم نظام يوليو لإخوانه:

           إني لأحيا بالمعزة في بلاد الأكرمين
           الرافعي علم العروبة فوق هام العالمين
           الصانعين نواة وحدتنا تراث الأولين
           كره العدا لهم دليل أن حكمهم أمين

وفي ختام القصيدة الرقيقة يعتذر الزبيري عن موقفه بأن خلافات الإخوان مع حكام مصر هي مواقف صغيرة ستمحوها السنين، ولا يجب تغليب المسائل المصيرية عليها:

         ندع الخلافات الصغيرة تنمحي بيد السنين
        يطغى عليها حسنّا بخطورة المتربصين
        حرب المصائر لو خسرناها هلكنا أجمعين

ثمن الموقف
ويمر الزمن، ويحدث التغيير في اليمن بدعم مصر.. لكن شوائب الحكم الفردي عادت ثانية، وواجه الزبيري وتلاميذه العنت والظلم هذه المرة من الحكام الجدد ودولة الدعم العربي ذاتها!

ويسجل تاريخ اليمن المعاصر أن الزبيري رفض أن تتكرر مأساة اليمن مع الحكم الفردي تحت شعارات الثورة والجمهورية، وأبى هذه المرة أن يسكت مراعاة لمنطق "حرب المصائر لو خسرناها هلكنا أجمعين"، ورأى بعينيه أن الفردية شرٌّ لا بد من مقاومته في الوقت المناسب قبل أن يستفحل ويصير مأساة جديدة!

وكان ما كان في السنوات الأخيرة من حياة هذا الشاعر النبيل والمناضل النقي، فقد خرج منددا بالفردية الثورية وتعنت العسكر، ودعا إلى السلام والتفاهم، وتغليب الحكمة والحوار على عنجهية السلاح والاغترار بالقوة، ومشددا على أهمية كسب القبائل بالمنطق الذي تفهمه وهو: أن الإسلام هو روح الجمهورية والثورة، وموجه لهما.

ودفع الزبيري ثمن موقفه هذا دما طاهرا تدفق فوق أرض وطنه.. فكما لم تعجب دعوته للسلام والتفاهم حكام صنعاء وداعميهم المصريين، فكذلك أرعبت حركته بين القبائل المتمردين المتشيعين للإمام، وخافوا أن تنجح دعوة الزبيري الإسلامية بين القبائل، وتجذبهم لدعم الجمهورية، واغتالوه وهو يسعى لحقن الدماء في بلد لا تتوقف فيها الحروب، تصديقا لبيت شعري قاله يوما ما:

       بحثت عن هبة أحبوك بها يا
       وطني فلم أجد إلا قلبي الدامي

المصدر : الجزيرة