"هاربون من الموت".. معابر الجحيم إلى أوروبا

غلاف كتاب هاربون من الموت

هيثم حسين

يستهل الألماني فولفانج باور كتابه "هاربون من الموت" بالحديث عن تجربة اللجوء التي تكاد تكون ظاهرة عالمية بامتياز، مر بها كثير من الناس في الشرق والغرب، وعلى مراحل تاريخية مختلفة، بحيث إن هذه التجربة غيرت تركيبة مجتمعات بأسرها، وساهمت في خلق تنويعات اجتماعية مختلطة، فضلاً عن تسببها في عدد من المشاكل التي وجد اللاجئون وأبناء البلد الأصلي أنفسهم في معمعتها.

يوثق باور في كتابه (منشورات العربي في القاهرة، ترجمة جمال خليل صبيح 2016) حكايات مجموعة من السوريين ومحاولاتهم عبور الطريق إلى أوروبا، وخوض مغامرات الإبحار من مصر وتركيا، وتعرضهم لابتزاز عصابات المتاجرة بالبشر وتعنيفهم، ووقوعهم بين أنياب مهربين ماتت ضمائرهم، ولا يرون في الإنسان سوى كمية النقود التي يمكن سلبها منه.

يقرر باور خوض مغامرة الإبحار من جنوب المتوسط إلى شماله، ينضم لمجموعة اللاجئين التي تتفق مع المهربين لإيصالهم بحراً إلى إيطاليا، يخفي شخصيته الحقيقية عن المهربين والركاب جميعاً، لا يعرف بذلك إلا شخص سوري وحيد سهّل له الأمر وتعاون معه. يخبر باور الجميع أنه وصديقه المصور الصحافي التشيكي ستانيسلاف كروبر شخصان هاربان من دول القوقاز ويسعيان للوصول إلى أوروبا بدورهما.

يصف باور الضغوط التي يتعرض لها اللاجئون أثناء التفاوض مع المهربين وقبل الإبحار، وكيف أنها تبلغ أشدها في قلب البحر وبين الأمواج الصاخبة، واضطرارهم للرضوخ للابتزازات المتتالية، وكيف ينشب أحياناً صراع بين المهربين أنفسهم على الركاب، ويحجزون عليهم في عرض البحر كودائع أو بضائع لحين إتمامهم صفقاتهم المشبوهة على البر.

الهجرة غير النظامية تفاقمت خلال السنوات الماضية على خلفية الاضطرابات الواسعة في كثير من بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا(الأوروبية)
الهجرة غير النظامية تفاقمت خلال السنوات الماضية على خلفية الاضطرابات الواسعة في كثير من بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا(الأوروبية)

يرصد الكاتب لحظات التيه في البحار، ومعارك القراصنة الدموية، وحقيقة وجود عالم يبدو أنه خارج القوانين الإنسانية والدولية، وخارج نطاق السيطرة والتحكم، بل يبدو سوقاً للمتاجرة بالبشر، لبيع الرقيق وشرائهم، وكأنه يتحدث عن عالم لا يمت إلى القرن الحادي والعشرين بأية صلة، وينقل معاناة اللاجئين، وجوعهم وتشردهم وضياعهم وقهرهم واختطافهم، وحجزهم ومساومتهم والتنكيل بهم وإذلالهم.

يؤكد باور أنه كان يهدف من مغامرته إلى أن يوثق بالحس والخبرة والتجربة القريبة الملامسة للواقع ماذا يعني بالضبط الهروب واللجوء. ويقول إنهم كانوا يمرون في رحلتهم بلحظات كان الخوف فيها يتملكهم ويأخذ بأرواحهم ويذيب قوتهم ويجعلها خائرة تماماً.

وينوه إلى أنه وصديقه كانا يمتلكان ميزة لم تكن من نصيب أي من السوريين الذين كانوا معهم، وهي الإمكانية المفتوحة في كل وقت للرجوع بشكل آمن.

يشير باور في عمله لفشل سياسات الاتحاد الأوروبي في منع الهجرة غير النظامية، وعدم القدرة على محاصرة المهربين والإيقاع بهم، رغم ما يتخذه الاتحاد من إجراءات صارمة على حدوده المتوسطية، وتجنيد مئات الآلاف من الجنود وكثير من المعدات العسكرية المتطورة لذلك، ويقول بمرارة وأسى إن "البحر المتوسط الذي كان مهد أوروبا وشهد مولدها صار المسرح الأكبر للخذلان والفشل".

يعتمد باور تقنيات الكتابة السينمائية كأنه بصدد تقديم مشاهد متعاقبة، يتنقل بين الأمكنة من مصر وتركيا إلى اليونان وإيطاليا والنمسا وألمانيا والسويد. يعيش مع شخصياته الواقعية التي تبدو كأنها خارجة من عالم روائي متخيل..

صدمة كبرى
يعبر باور عن صدمته الكبرى في الوقائع التي مر بها والحوادث التي شهدها، يستذكر المخاطر التي مر بها الهاربون من جنون الحرب إلى الفردوس المتخيل، وكيف أن رحلة عبور البحر كانت جحيماً لا يطاق على اللاجئين، ويعترف بسذاجته حين اعتقد أن البحر هو الخطر الأكبر على الرحلة. يقول "لقد علمتنا التجربة لاحقاً أن البحر لم يكن سوى واحد من مخاطرها العديدة".

يجمع باور بين التحقيق الصحافي والسرد الروائي، يدعم أجزاء من كتابه بصور توثيقية، ينتقي حكايات اللاجئين، يضفي عليها مسحة أدبية، ينقل ما يعترك في دواخلهم، وما كان يتمثل في حركاتهم وعلى وجوههم، يحاول المحافظة على جمالية اللغة ودقتها بالموازاة مع فداحة الأسى الذي يصوره وعمق المأساة التي ينقلها.

يعتمد باور تقنيات الكتابة السينمائية، كأنه بصدد تقديم مشاهد متعاقبة، يتنقل بين الأمكنة من مصر وتركيا إلى اليونان وإيطاليا والنمسا وألمانيا والسويد. يعيش مع شخصياته الواقعية التي تبدو كأنها خارجة من عالم روائي متخيل، ومغامرة الموت التي تتوج بالوصول إلى بر الأمان، تكون رسالته لدعم قضية اللاجئين والسعي لاتخاذ مزيد من التدابير لإنقاذ الهاربين على قوارب الموت، ومحاصرة المهربين وملاحقتهم.

يطلق الكاتب صرخته الاستغاثية قائلا "إلى متى يجب علينا الانتظار ونحن نشاهد هؤلاء البشر يغرقون ويموتون في أعالي البحار؟ إلى متى يجب علينا أن نجبر جيلاً فتياً من السوريين على اللجوء بطرق غير شرعية وتركهم لمصيرهم مع تجار البشر والحروب من العصابات؟ إلى متى سنقوم بخيانة أنفسنا والضحك عليها؟ لا تجبروا النساء والأطفال والرجال على الاحتماء بقوارب اللجوء والموت. فلتفتحوا الحدود الآن. ليكن في قلوبكم رحمة وشفقة".

المصدر : الجزيرة