مؤلفون وناشرون

علي البتيري - الأزمة بين المؤلفين والناشرين في تراكم مستمر يكاد ينذر بقطيعة مستدامة يكون الكتاب قبل الكاتب أول ضحاياها

علي البتيري*

بادئ ذي بدء، لنعترف بأن هناك علاقة متأزمة ومزمنة بين المؤلف والناشر على الدوام لا تفتر أو تؤذن بانفراج، وإنما تتصاعد وتتفاقم على طول الوطن العربي وعرضه.

وكلما بدا لنا ضوء أخضر في آخر النفق تكفلت رياح الخلاف والاختلاف بإطفائه، فتعتم الطريق المؤدية للنشر من جديد، وتلقي الأزمة بظلالها السلبية على حركة الثقافة العربية، مما يحد من عدد الإصدارات الأدبية والعلمية والفكرية في كل سنة نطمح فيها ونطمع باعتدال المناخ الثقافي العام، فنكتشف بأننا على صعيد التأليف والنشر نتقدم إلى الوراء لا إلى الأمام.

فمن تقاعس لدى المؤلفين عن دفع مخطوطاتهم إلى حلبة الناشرين التي باتت تشبه حلبة المصارعة، لا تضبطها أنظمة وقوانين مرعية، إلى تردد وتحفظ لدى الناشرين الذين يخضعون المؤلفات المقدمة لهم لمنظور تجاري بحت يعطونه دائما الأولوية في التعامل مع زبائنهم المؤلفين، وكأن العملية لا تعدو مسألة بيع وشراء وسمسرة لا تحتاج إلى سماسرة أو وسطاء خير ما دام الناشرون يقومون بهذه المهمة لصالحهم دون أدنى اعتبار لمصلحة الكتاب والأدباء.

تقاس أهمية وجودة ما سينشر بما يملكه المؤلف من قدرة على الدفع النقدي أو طول الصبر في انتظار ما يمكن أن يأتي من وراء الكتاب المنشور من مردود مادي، أما المردود المعنوي فينال المؤلف شيئا منه، في حين القسم الأكبر من هذا المردود تستحوذ عليه دار النشر حين تدخل بالكتاب المنشور مجالات المعارض العربية والدولية.

شكوى المؤلفين
وإذا ما فتحنا بابا للشكاوى، فإن الناشرين -الذين يوصفون من قبل المؤلفين بالجلادين- سيكونون السباقين لبث شكواهم من قلة حيلة المؤلفين وقحط جيوبهم من جهة، ومن كساد السوق وتقهقر سوق الكتاب بعد هذه الهجمة الإلكترونية عليه وسيطرة الكتب المرئية على المادة الورقية المطبوعة كتابا كانت أم مجلة.

لو فتحنا بابا للشكاوى، فإن الناشرين -الذين يوصفون من قبل المؤلفين بالجلادين- سيكونون السباقين لبث شكواهم من قلة حيلة المؤلفين وقحط جيوبهم من جهة، ومن كساد السوق وتقهقر سوق الكتاب بعد هذه الهجمة الإلكترونية عليه

بل إنهم في معرض تذمرهم من هذه الحالة المستجدة لا يتورعون أو يترددون بين تنهداتهم وادعاءاتهم في الترحم على الكتاب المطبوع قبل أن يلفظ الأنفاس، بينما واقع الحال يقول غير ذلك، ومن يزر معارض الكتب العربية والدولية يكتشف دون عناء أن الكتاب المطبوع ما زال بخير.

ويقودنا الحديث إلى شكوى المؤلفين المتذمرين على الدوام من التعامل الفوقي الغامض الذي يحرص عليه الناشرون عندما يتعاملون معهم بتحفظ وحرص شديدين لا يبعثان على الاطمئنان.

فهذا مؤلف يقول لك بأنه اتفق مع الناشر على نسبة محدودة من هامش ربح الكتاب في السوق، وبعد سنة أو أكثر من تاريخ النشر راجع ناشر كتابه مستبشرا فقيل له بأن كتابه مركون في المستودع وما بيع منه سوى بضع نسخ لا تستحق أن يجرى لها حساب، وما على الصابرين إلا الانتظار.

وهذا مؤلف آخر يضرب كفا بكف ويقول لك بعد تنهد عميق وانحباس زفير من بعد شهيق: لقد اتفقت مع ناشر صديق على أن أدفع له نصف تكاليف الطباعة لآخذ بعد نشر الكتاب نصف الكمية المطبوعة، وبعد أن أجرى حساباته على الآلة الحاسبة حدد لي ما هو مطلوب مني فدفعت له المبلغ المطلوب دون أن أطالب بزيادة من النسخ مقابل حق التأليف. وكانت الفجيعة عندما اكتشفت بأنني قد دفعت عني وعنه كامل تكاليف الطباعة، ولكن بعد أن سبق السيف العذل كما يقولون.

وذك مؤلف ثالث يروي لك قصة في غاية الطرافة والإيلام تتعلق بتوزيع كتاب كان هو مؤلفا مشاركا فيه إلى جانب مؤلفين آخرين.

الداء والدواء
يحكُّ صاحبنا جبينه بظفره ويقول مستهلا الحديث بابتسامة صفراء: كنا ثلاثة أدباء نكتب القصة القصيرة، ودفعنا ضيق الحال المادي إلى التفكير في إصدار مجموعة قصصية مشتركة نتعاون على تغطية تكاليف طباعتها، وهذا ما كان.

للقائمين على الثقافة العربية أن ينتبهوا لما هو قائم ومتفاقم بين المؤلفين والناشرين، فيقف في منتصف المسافة المأزومة للجمع بين الجمعين على طاولة التفاهم والتكافل والانسجام

ذهبنا بالكمية المطبوعة إلى دار نشر وتوزيع مرموقة ولها خبرة وباع طويل في التوزيع محليا وعربيا ووقعنا ثلاثتنا اتفاقية التوزيع والتفاؤل بالنتيجة يحيط بنا من كل جانب.

وبعد شهور تقارب السنة، ذهبنا متفائلين مستبشرين لمراجعة مدير التوزيع في تلك الدار فقال لنا وهو يظهر أسفا مصطنعا بإتقان: مطلوب منكم أن تدفعوا ثلاثتكم ثلاثين دينارا بدل تخزين وتوزيع لم يعد بمردود يذكر، حيث لم نبع لكم نسخا، والنسخ التي نقصت قد تم توزيعها على سبيل الإهداء كما نصت الاتفاقية.

وتطول الأحاديث وتتشعب على صعيد شكوى المؤلفين وعروض حالهم التي لا تسر أحدا، ولكن طال الحديث أم قصر، فإن الأزمة بين المؤلفين والناشرين في تراكم مستمر يكاد ينذر بقطيعة مستدامة يكون الكتاب قبل الكاتب أول ضحاياها.

وإن بقيت الأمور تجري في غير مجراها الذي نريد، فإن حقوق المؤلفين ستبقى ضائعة متشردة تنام على أرصفة الإهمال في أحسن الأحوال، كما أن حركة النشر والتثقيف ستظل محدودة ومأزومة ومتشرذمة هنا وهناك دون مواصفات ومقاييس وضوابط ثقافية ترضي وتنصف الطرفين، وتضمن خروج العديد من المخطوطات المؤلفة من أدراجها المظلمة إلى دائرة النور.

ولكن من سيشخص الداء ويصف الدواء ليعيد إلينا صحتنا الثقافية المهددة بالتدهور والضمور، والأمل مرهون ومنوط بمن هو قادر على إصلاح الأمور، وللقائمين على الثقافة العربية أن ينتبهوا لما هو قائم ومتفاقم بين المؤلفين والناشرين، فيقف في منتصف المسافة المأزومة للجمع بين الجمعين على طاولة التفاهم والتكافل والانسجام، لما في ذلك من خدمة للطموحات الثقافية المنشودة في عالم فائض بالمعرفة لا يحترم الثقافات الضعيفة المتقهقرة أو البطيئة السير في وضح النهار. 
_________________

* كاتب وشاعر فلسطيني

المصدر : الجزيرة