"ثلاثة جياد" محنة اللجوء وجاذبية الحرب

غلاف رواية ثلاثة جياد

هيثم حسين-لندن

يركّز الإيطالي أري دي لوكا (نابولي 1950) في روايته "ثلاثة جياد" على مسألة البوح والمكاشفة والاعتراف بالذنوب، ودور ذلك وتأثيره في اختطاط مسار جديد بعيداً عن ذهنية المحاربة والانتقام والقتل.

وينطلق المؤلف من الاعتماد على الكتاب كمدخل إلى العلم، ووسيلة لتبديد الجهل، وكيف أنه يكون السلاح الأمضى في التخفيف من حدة التوترات القديمة والمشاكل التي تثيرها على مر الزمن.

يؤسّس دي لوكا الخلفية التاريخية لروايته (منشورات الجمل بيروت، ترجمة نزار آغري 2015) على جوانب وتفاصيل من حياة الإيطاليين المهاجرين إلى الأرجنتين، التي كانت قد استقبلت حتى نهاية 1939 قرابة سبعة ملايين مهاجر نصفهم تقريباً من الإيطاليين.

ومن عام 1976 وحتى 1982 خضعت الأرجنتين لحكم عسكري دكتاتوري فتك بالبلاد واختفى ما يقارب أربعين ألف شخص، غالبيتهم من الشباب، من دون مقابر تدلّ عليهم.

يقرأ الراوي الكتب المستعملة لأن الصفحات حين تُقَلَّب مرات عديدة، وتُمَسَّد بأصابع كثيرة، تستقر في العيون بشكل أعمق، ولأن كل نسخة من الكتاب تملك أرواحاً عديدة

عظام هشّة
يحرص صاحب "اليوم ما قبل السعادة" على سرد حكايات بطله المحارب المهاجر وبوحه لصديقته ليلى، بما ظل يتكتم عليه من مغامرات الحرب وقصص الأسى والقهر.

ينطلق في بوحه من توصيف علاقته بالكتب، إذ يصف الكتب الجديدة بأنها وقحة ولا تكف صفحاتها عن الحركة، تقاوم بثبات ويتطلب الأمر التحكم بها بغية إخضاعها، أما الكتب المستعملة فإن عظامها هشة، تطوى الصفحات بسهولة من دون أن تحاول النهوض ثانية.

يضيف الراوي أنه يقرأ الكتب المستعملة لأن الصفحات حين تُقَلَّب مرات عديدة، وتُمَسَّد بأصابع كثيرة، تستقر في العيون بشكل أعمق، ولأن كل نسخة من الكتاب تملك أرواحاً عديدة.

ويرى أنه ينبغي للكتب أن تكون متاحة للجميع في أماكن عامة من دون حراسة، وأن تذهب برفقة المارين بها الذين يأخذونها لبعض الوقت، أن تموت حين يموتون من أثر المحن والعذابات والأمراض، وأن تغرق تحت الجسر مع المنتحرين أو تحترق في مدفأة في الشتاء، أو تتمزق حين يعمد الأطفال إلى صنع قوارب من صفحاتها. أي أن تموت كيفما كان وأينما كان أفضل من أن تموت من الملل والوحدة، متروكة لحياة كئيبة على رفوف مكتبة.

يضطر المرء للانخراط في الحرب هرباً من الشعور بالعار في أن يبقى خارجها، ثم يسيطر عليه الغم ويدفعه أكثر فأكثر إلى القيام بدور المحارب الغاضب

يحكي دي لوكا عن محنة اللجوء، وعن معاناة اللاجئين الطليان في الأرجنتين، على لسان راويه الذي يبوح بمعاناته لصاحب المطعم الذي يصادقه، ولا يثقل عليه بالتفاصيل، يذكر له أخطاءه في رحلة البحث عن حياة آمنة، فيعرض عليه عملاً، ويقبل هو من دون تردد. ويستعيد بعض الحكايات، موقناً أن هناك أخطاء تنطوي على حقائق، كأن يودي خطأ لغوي بامرئ، أو يتسبب في تشويهه.

يشير لوكا إلى أن الهارب لا يجد أمامه ميداناً فسيحاً بل دروباً كثيرة مسدودة. ويتخيل أنه يخوض في الزوايا والمنعطفات، في الليل يسير في الفضاء الرحب مشياً على الأقدام، صوب الجنوب، العالم كله وراءه. يعترف بطله لنفسه إن في داخله ذلك الشيء الذي يوجد لدى الكثير من الرجال، الحب، الانفجار، بضع جمل مليئة بالأشواك من دون رغبة في التحدث عنها.

فرصة للانتقام
يكشف صاحب "جبل الرب" أن اللاجئ يتعلم كثيراً من الأشياء، ويفقد أشياء أخرى كثيرة بحكم الواقع الجديد، ويتأسف أنه لم يتبق إيطاليون كبار في السن في الأرجنتين، ولا حتى يافعون، بل تحوّلوا إلى أرجنتينيين. ويتوجه بحديثه إلى منحى آخر، حين يتحدث عن الحرب التي استمرت سنوات، وكيف أنه لا تزال حقول الكرم مليئة بالألغام.

ويتأسف كيف أن المرء يضطر للانخراط في الحرب هرباً من الشعور بالعار في أن يبقى خارجها، ثم يسيطر عليه الغم ويدفعه أكثر فأكثر إلى القيام بدور المحارب الغاضب.

يبرز دي لوكا أحوال المهاجرين كأنهم جياد حرة مهاجرة، تحارب من أجل الحظوة بعيش كريم لائق، تخوض غمار سباقها مع الزمن في حروب لا تني تتجدد

يجد الراوي -وهو محارب سابق- أنّ في وسع الحرب أن تكون جذابة. يتحدث عن الديون، السرقات، القروض، العقود. ويقول إن الحرب تستطيع أن تلغي كل الوثائق، وإنها للبعض بمثابة غفران وللبعض الآخر فرصة للانتقام. ثم تحترق البيوت مع الأولاد الذين بداخلها ويخسر الجميع.

ينتقل من حديث الحرب إلى الحديث عن القتل، يحكي كيف أن القتل يبعث على الغثيان، وأن المرء لا يتخلص من قبح الموت، بل يبقى ملتصقاً به طول العمر. ويجد أن هناك الكثير من القتلة الذين يستسلمون للقتل.

لا يحاول بطل الرواية البحث عن أجوبة عن تاريخه، ولا تطالبه صديقته بذلك، يلوح لها أن إنكار تاريخ كتاريخه هو نوع من الضياع، وصارحها بأنه ينكر لأن مجرد البحث عن أجوبة عن الحياة التي ضاعت هو نوع من الذريعة، وأنه يخفف من هول الصدمة، وهو لا يميل إلى ذلك. ويضيف أنه كغيره من المحاربين الذين لا يبوحون بالأجوبة، لا يعرفون الوقوف أمام سؤال، وأنهم آخر ما تبقى من السؤال.

يبرز دي لوكا أحوال المهاجرين كأنهم جياد حرة مهاجرة، تحارب من أجل الحظوة بعيش كريم لائق، تخوض غمار سباقها مع الزمن في حروب لا تني تتجدد، وتثبت أن الأصالة تكمن في الوفاء بالوعود، وعدم التخلي عن الجذور، وترسيخ مفهوم التسامح والعطاء.

يشير دي لوكا كيف أن الكتاب يغدو بالنسبة للإنسان وسيلة تطهر وتطهير في الوقت نفسه، وذلك من خلال تصويره واقع تغيير الكتاب لبطله، وتحويله من محارب سابق، ومهاجر ضائع يحمل ضغائنه وانتقامه وحكاياته المؤثرة وأوجاعه المزمنة، إلى آخر يبدل السكين التي يخفيها بكتاب يعفيه من مغبة الهرولة وراء سراب الماضي المثخن بالجراح.  

المصدر : الجزيرة