"صلاة لأجل المفقودات" تفضح عصابات التهريب بالمكسيك

غلاف صلاة لأجل المفقودات

هيثم حسين

تقتحم المكسيكية جينيفر كليمنت في روايتها "صلاة لأجل المفقودات" عالم عصابات تهريب المخدرات والاتجار بالبشر، وخطف الطفلات القاصرات واستغلالهن ثم التخلص منهن لاحقا.

وتصور الروائية كيف أن الأهل هناك كانوا يكذبون بشأن أطفالهم، فحين ينجبون ابنة يقولون إنهم أنجبوا صبيا ويخفونها عن الأعين، أو يجاهدون لإظهارها بصورة صبي، خوفا من تلك العصابات التي كانت تصطاد البنات وتسرقهن.

وترصد الكاتبة في روايتها -الحائزة على جائزة ساري كاري الإنسانية لعام 2014- مأساة شريحة من نساء المكسيك في الأرياف ممن وجدن أنفسهن بين براثن مهربي المخدرات والبشر، ومحاولاتهن التكيف مع حياتهن القاسية، وعدم اللجوء إلى أي سلوك من شأنه أن يلفت أنظار المهربين إلى جمالهن، وكيف أن المسعى كان متركزا على ضرورة تقبيح الفتاة بدلا من تجميلها، وكانت صالونات التجميل في المنطقة تقوم بعكس دورها المعتاد في تجميل النساء، إذ كانت تتكفل بتبشيعهن من منطلق الحرص والحذر والحماية.

مكان غاضب
تفتتح كليمنت روايتها -التي نشرتها دار الجمل بترجمة عبير مرعي (2015)- على لسان راويتها ليديدي غارسيا مارتينيز التي تستهل الحكاية بسرد ذكرياتها وهي في حوالي الخامسة من عمرها حين قالت لها أمها "الآن جعلناك بشعة"، ثم همست لها "إنها حياة قذرة". وتستعيد صورتها آنذاك في المرآة، وكيف أن الشرخ في مرآة جعل وجهها يبدو كأنه كسر إلى جزأين، والتأكيد أن أفضل ما يمكن للفتاة أن تكونه في المكسيك هو أن تكون بشعة.

الكاتبة ترصد في روايتها مأساة شريحة من نساء المكسيك في الأرياف ممن وجدن أنفسهن بين براثن مهربي المخدرات والبشر، ومحاولاتهن التكيف مع حياتهن القاسية

وتبرز كليمنت مصيبة نساء مقاطعة غيريرو اللاتي وجدن أنفسهن في عالم شرس، فلا يلتفت أحد إلى حقوقهن، ويتركهن رجالهن ويسافرون إلى الولايات المتحدة الأميركية، قسم منهم يقضي أثناء تجاوزه الحدود بشكل غير نظامي، وآخرون ينشغلون بحياتهم الجديدة هناك ولا يكادون يتذكرون أسرهم إلا في حالات نادرة.

وسط تلك القسوة لا بد لأولئك النسوة من التأقلم وتطوير وسائل الحماية وتحدي منظمات الجريمة والتهريب، فابتكرن أساليب خاصة كالاختباء في الجحور، وحتى اللجوء إلى القتل في بعض الحالات، وانتشرت ظاهرة أطفال القمامة، حيث كان هناك مَن يتخلص من طفلته بإلقائها بين القمامة خوفا من المستقبل المرعب الذي ينتظرها.

تصف "ليديدي" (بطلة الرواية) المقاطعة التي ولدت فيها بأنها المكان الذي يجعل أهله الأكثر غضبا ولؤما في العالم.. وتذكر أنه لم تعد أي فتاة من اللواتي سرقن، أو حتى أرسلت رسالة، ما عدا باولا التي عادت بعد عام من اختطافها، وكانت قد تعرضت لعذاب شديد، وكتب على يدها وشم "حبيبة آكل لحوم البشر". باولا التي كانت من أجمل الفتيات في المنطقة، لم تفلح محاولات أمها في تبشيعها، وكانت شهرتها بأنها أجمل من جينيفر لوبيز قد انتشرت في الأرجاء ولفتت إليها أنظار العصابات.

سمت والدة الراوية ابنتها ليديدي على اسم الأميرة ديانا، لأنها كانت تراها من النساء التعيسات رغم كل المظاهر التي تحيط بها، كانت تقول عنها "لو وُجدت قديسة النساء المخدوعات فيجب أن تكون ليدي ديانا"، وتعتبر أن اسمها هو انتقام أمها.

وتحكي الراوية كيف أنه في منطقتهم لا وجود إلا لرجال العصابات، حيث إن الرجال الآخرين عبروا إلى الولايات المتحدة وغمسوا أقدامهم في الماء وخاضوا فيها حتى خصورهم لكنهم كانوا موتى عندما وصلوا إلى الجانب الآخر. في ذلك النهر أراقوا نساءهم وأولادهم ومشوا إلى المقبرة العظيمة للولايات المتحدة الأميركية.

تواطؤ ودسائس
تكشف كليمنت الستار عن سلسلة من الممارسات البشعة من خطف البشر وقتلهم وسبي النساء والتنكيل بهن وحرق المحاصيل والبيوت، وغير ذلك من الجرائم التي كان الحديث عنها محظورا في العلن، وكيف كان يتم الحديث سرا والتأكيد أنه إذا لم تتكلم عن موضوع فكأنه لم يحدث قط. أحدهم سوف يكتب أغنية عنه بكل تأكيد. كل شيء يجب عليك ألا تعرفه أو تتكلم عنه سيتحول في النهاية إلى أغنية.

جينيفر كليمنت تكشف تواطؤ السلطات المحلية مع رجال العصابات وغض النظر عن تصرفاتهم وتجاوزاتهم واختراقهم الدائم للقانون، بل مشاركة المسؤولين للمهربين وتجار المخدرات وتسهيل عمليات السطو والتهريب لهم

وتصور الروائية كيف أن طريق الإشاعات بين الولايات المتحدة والمكسيك كان بالنسبة إلى أبناء المنطقة أقوى مسار في العالم كله. وترتحل بين عالم الريف والدسائس والمؤامرات فيه إلى عالم المدينة الأكثر شراسة وعنفا، وتقتحم أجواء السجن، حين يقبض على بطلتها بتهمة مساعدة أحدهم على القتل والصمت على جريمته، وكانت قد قضت فترة في أحد البيوت التي يفترض أن تعمل فيها خادمة، إلا أنها عاشت كعروس فيها برفقة خوليو الذي حاول عبور الحدود لكنه فشل، وأصبح من عداد المفقودين لأنه مطلوب للسلطات الأميركية والمكسيكية.

تشير جينيفر كليمنت إلى تواطؤ السلطات المحلية مع رجال العصابات، وغض النظر عن تصرفاتهم وتجاوزاتهم واختراقهم الدائم للقانون، بل مشاركة المسؤولين للمهربين وتجار المخدرات وتسهيل عمليات السطو والتهريب لهم، حيث تكون مقدرات البلاد بيد العصابات التي تتصارع فيما بينها على مناطق السيطرة والنفوذ.

تسرد الروائية روايتها وكأنها تردد صلاة أدبية تاريخية لأجل المفقودات اللاتي وقعن ضحايا عالم الجريمة المنظمة، وتظهر كيف أن بمقدور المرأة تحدي تلك الممارسات بكشفها للعلن، وتحويل الرواية إلى ترنيمة تهدهد المرعوبات المسروقات، وتوجب البحث عنهن، لرفع الظلم الواقع عليهن وإنصافهن.

وتبقي الروائية على جذوة الأمل مشتعلة في نفوس بطلاتها، وذلك من خلال التغيير الذي يجتاح حياتهن، إذ إن بطلتها ليديدي تكون برفقة أمها وتخبرها أنها تحمل في أحشائها طفلا وأنها ستعتني به، تبادلها أمها نظرات الثقة والأمان، وتطلب منها أن تصلي ليكون صبيا. يكون السفر وتغيير المكان تأكيدا على ضرورة تغيير الممارسات والتصدي لها، ومحاولات إنقاذ ما يمكن إنقاذه في بحر تلك الفوضى وانعدام القانون.

يشار إلى أن جينيفر كليمنت كاتبة مكسيكية أميركية، ولدت عام 1960 في الولايات المتحدة وانتقلت مع عائلتها إلى المكسيك عام 1961 حيث نشأت وترعرعت في مدينة مكسيكو. ودرست الأدب الإنجليزي في جامعة نيويورك والأدب الفرنسي في باريس. وترأست نادي القلم في المكسيك بين عامي 2009 و2012، كما نشرت العديد من الكتب والدراسات والدواوين الشعرية. 

المصدر : الجزيرة