أزمة اليمن تنبش صراعا ثقافيا قديما

تصميم مقال للثقافة للكاتب ناصر يحيى

ناصر يحيى*

عندما برزت الحركة الحوثية عام 2004 كطائفة سياسية وطائفية وعسكرية؛ كان أحد آثار ذلك البروز هو نبش تفاصيل صراع فكري وثقافي عرفته اليمن منذ بواكير نشوء الدولة الشيعية الزيدية نهاية القرن الهجري الثالث.

ولأن أساس الدعوة الشيعية الزيدية كان حصر الإمامة/السلطة في العلويين من أبناء الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب رضي الله عنهم؛ فقد كان ذلك إعادة يمنية للخلافات المعروفة في التاريخ الإسلامي بين القحطانيين والعدنانيين، أو عرب الجنوب وعرب الشمال؛ الذي عرفته معظم الممالك الإسلامية بأشكال مختلفة، كانت ذروتها مواجهات عسكرية، وأخفها تعبيرات فلكلورية وأدبية وتاريخية ينتصر كل طرف منها لقومه وعشيرته.

ويعيد باحثون كثر أسباب هذا الصراع متعدد الجوانب إلى شعور اليمانيين بانتقاص الآخرين لدورهم في نصرة الإسلام منذ هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وحروب الفتح الإسلامي التي كان لهم فيها دور حاسم وعظيم، بالإضافة إلى إيمانهم بتميز تاريخهم الحضاري والسياسي العريق قبل الإسلام.

وفي المقابل، فإن معظم نظريات السلطة/الإمامة إما أنها محصورة في قبائل قريش عموما أو في الأسرة الهاشمية بفرعيها العباسي والعلوي، مع ما يستتبع ذلك من تمجيدهم والترويج لفضلهم وتفوقهم على الآخرين.

باحثون كثر يعيدون أسباب الصراع التاريخي بين العدنانيين والقحطانيين إلى شعور اليمانيين بانتقاص الآخرين لدورهم في نصرة الإسلام منذ هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وحروب الفتح الإسلامي

الهمداني والهوية اليمانية
ومع دخول الدعوة الشيعية الزيدية إلى اليمن عام 284هـ على يد الإمام الهادي يحيى بن الحسين، جالبا معه نظريته بحصر الإمامة/السلطة في أبناء البطنين (الحسن والحسين)؛ انتقلت معركة القحطانيين والعدنانيين إلى داخل اليمن نفسه.

وقد لاحظ د. علي محمد زيد -وهو متخصص متميز في تاريخ الدولة والفكر الهادوي- أن حالة النفور اليمني والشعور بالانتقاص من الداعية العلوي قد ظهرت في السنوات الأولى لعمر دولته، حتى أن دعوات عديدة من معارضيه اليمنيين في التحريض ضده استندت إلى كونه غريبا عن الأرض اليمنية.

كما لوحظ أن الإمام العلوي نفسه كان قليل الثقة حتى في مؤيديه اليمنيين، فلم يولهم قيادة الجيوش ولا المناصب التي ظلت حكرا في معظمها على أقاربه العلويين الذين جلبهم من الحجاز أو على الشيعة القادمين من طبرستان من بلاد فارس، واقتصر دور اليمنيين على خوض المعارك ودفع الواجبات المالية.

كان الحسن الهمداني -وهو أحد أشهر العلماء اليمنيين والعرب الموسوعيين- معاصرا للدور الأول للدولة الهادوية، وقد ساءته نظرية حصر الإمامة في أسرة معينة وحرمان اليمنيين من حكم أنفسهم، كما ساءه التطاول على اليمنيين وتحقيرهم، وممارسة نوع من التمييز التاريخي ضدهم، وقد أسهم في ذلك دراسته العميقة للتاريخ اليمني القديم والحضارات العريقة التي عرفتها بلاده قبل الإسلام.

وقد جاهر الهمداني بعداوة دولة الإمام الناصر حفيد المذهب الهادوي، وكان أبرز ذلك قصيدته "الدامغة" وشرحه لها، التي أثبت فيها تفوق اليمن -إنسانا وحضارة وتاريخا- وأنه لا حق للإمام الهادي وأولاده في حكم اليمن، لا بدليل ديني ولا بحق مكتسب، واتهمت بالتالي أشعاره المعتزة بيمنيته والرافضة لاحتكار العلويين للسلطة بأنها معادية للنبي محمد وآل بيته من قبل المدافعين المتعصبين للعلويين.

وقد لقي الهمداني كثيرا من العنت بسبب ذلك من قبل الإمام العلوي الناصر وحاكم صنعاء المتحالف معه الذي لجأ إليه هروبا من مطاردة العلويين، وتعرض للسجن عدة سنوات قبل أن تنجح قصائده المثيرة لحمية القبائل اليمنية في الإفراج عنه.

نشوان الحميري – علامة ولغوي ومؤرخ كبير- جاهر برفض نظرية التميز العرقي، وافتخر باليمن وأنسابها، ولم ير غيرها أفضل منها، وله أشعار كثيرة قارع بها معارضيه مفتخرا بدور قومه في نصرة الإسلام والنبي والخلفاء

نشوان الحميري والمطرفية
ومع استمرار العلويين ودولتهم في اليمن بنظريتهم السياسية المعروفة؛ لم يعدم التاريخ اليمني ظهور أكثر من دعوة مضادة لهم. وتمثل الدور الثاني والثالث لدعوة التميز اليمني ورفض حرمان اليمنيين من حق السلطة؛ في دعوة العلامة نشوان بن سعيد الحميري وجماعة المطرفية. وهم رغم انتمائهم المذهبي للزيدية أعلنوا فكرة مناقضة لنظرية العلويين السياسية، وأبرزها إنكار أفضلية بشر بأعيانهم اعتمادا على النسب والقرابة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإنكار حصر السلطة في أسرة واحدة.

جاهر نشوان الحميري -وهو علامة ولغوي ومؤرخ كبير- برفض نظرية التميز العرقي، وافتخر باليمن وأنسابها، ولم ير غيرها أفضل منها، وله أشعار كثيرة قارع بها معارضيه مفتخرا بدور قومه في نصرة الإسلام والنبي والخلفاء:
"يا رُبَّ مفتخر ولولا سعينا   وقيامنا مع جدّه لم يفتخِرْ".

ورأى الحميري أن الإمامة تكون للأفضل من خلق الله كائنا من كان لأنه أقرب للعدل وأبعد عن المحاباة:
"حَصَر الإمامةَ في قريش معشرٌ  هم باليهود أحق بالإلحاقِ
جهْلا، كما حصر اليهود ضلالة   أن النبوة في بني إسحاقِ".

كما كان له صراع آخر حول مفهوم آل النبي، وهل هم الهاشميون أم المؤمنون قاطبة:
"آلُ النبي همُ أتباع ملته   من الأعاجم والسودان والعربِ
لو لم يكن آله إلا قرابتَه   صلّى المصلِّي على الطاغي أبي لهبِ".

وكما حدث مع الهمداني، فقد شن المتعصبون للعلويين حملات شعواء ضده نثرا وشعرا، وأهدروا دمه وكفروه.

وأما جماعة المطرفية الزيدية، فقد كان أبرز مواقفها رفض حصر الإمامة في نسب معين، والجزم بأن الشرف والأفضلية غير متعلقة بنسب بل بالعمل.

وبسبب كونها جماعة منظمة وذات نفوذ بين عامة الزيدية، فقد واجهها إمام تلك الفترة (عبد الله بن حمزة) بحملة استئصال دموية محتهم محوا من الوجود، فكرا وإنسانا، على غرار محاكم التفتيش التي عرفتها إسبانيا بعد ذلك.

كتاب عديدون ناضلوا ضد فكرة هيمنة العلويين في اليمن بوصفهم غرباء عنه، ورفع آخرون شعار "كلنا عيال تسعة" رفضا لفكرة تفضيل نسب معين بمعايير الجاهلية ولا علاقة لها بالإسلام وقاعدته الخالدة: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"

المعركة مستمرة
ظلت المعركة المذكورة سابقا بين العلويين وأشياعهم والقحطانيين قائمة بشكل أو بآخر على طول الألف سنة الماضية، وفي العصر الحديث كتب السياسي والأديب العلوي أحمد الشامي قصديته "دامغة الدوامغ" ردا على دامغة الهمداني القديمة.

ولم يكن غريبا أن تنبش أزمة اليمن الراهنة بظهور الحركة الحوثية في تلك الصراعات التاريخية، فالدعوة الحوثية الجديدة لا تزال تستلهم النظرية السياسية القديمة التي جاء بها الهادي قبل 1050 عاما.

وفي الوثيقة الفكرية التي أصدرها الحوثيون وعلماء من الزيدية قبل ثلاثة أعوام، أعادوا تأكيد أبرز بنودها مثل حصر الإمامة في آل النبي، والإيمان باصطفائهم على الخلق، وأنهم طريق الهداية والنجاة وحجج الله على عباده في الأرض.

وكما حدث في الماضي، فقد انبرى مثقفون يمنيون لرفض فكرة الاصطفاء الأسري، واختصاص البعض بالفضل والهداية لمجرد النسب.

وناضل كتاب عديدون ضد فكرة هيمنة العلويين في اليمن بوصفهم غرباء عنه، ورفع آخرون شعار "كلنا عيال تسعة" رفضا لفكرة تفضيل نسب معين بمعايير الجاهلية ولا علاقة لها بالإسلام وقاعدته الخالدة: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
_______________
* كاتب صحفي يمني

المصدر : الجزيرة