ما تهبه القراءة للكتابة

ما هي الطقوس التي يجب أن يمارسها كاتب الرواية لتنجح كتابته، وهل هناك علاقة بين ما نقرأه وما قد نكتبه؟
أمير تاج السر*

منذ فترة وصلتني رسالة من قارئة كبيرة -كما وصفت نفسها- تحولت منذ فترة إلى كاتبة قصص قصيرة جدا، لكنها لم تنشر شيئا لعدم استطاعتها الوصول إلى منبر محترم تعرض من خلاله إسهامها في الإبداع، والآن هي بصدد التحول إلى كاتبة روائية، وتسأل "ما الطقوس التي يجب أن يمارسها كاتب الرواية لتنجح كتابته، وهل هناك علاقة بين ما تقرأه وما قد تكتبه؟ أي كيف تساعد القراءة في الكتابة؟

أعتقد أن صاحبة الرسالة هذه من القليلين من كتّاب هذه الأيام الذين تذكروا أن هناك حيلة كبرى تسبق الكتابة هي حيلة القراءة، وحيلة أخرى للذين يودون أن يصبحوا كتابا روائيين، هي حيلة القصة، التمرين الجيد لصياغة العبارة، واختبار قوتها من ضعفها.

وبالطبع، ليس كل كاتب رواية مطالبا بأن يكتب القصص سنوات قبل أن ينضم لقائمة كتاب الرواية، فهناك من يبدأ بالشعر، ومن يبدأ بالقصة، ومن يبدأ مباشرة بالرواية، ولكن بمخزون قرائي معرفي يؤهله ليكتب بحرفية وفن، وربما ينال جوائز كبرى من العمل الروائي الأول، كما حدث لكثير من كتاب الغرب حين نالوا جوائز مرموقة مثل "مان بوكر" البريطانية، و"غونكور" الفرنسية، و"بوليتزر" الأميركية، وهنا أيضا ثمّة من بدأ كبيرا وناضجا، وحصل على جوائز.

إبداعات أولى
وحين أتذكر العمل الأول الفذ، تتبادر إلى ذهني رواية الهندي أرافيند أديغا "النمر الأبيض"، وهي عصارة ميثولوجيا الهند، وخلاصة المعرفة المطلوبة عن تقاليدها وتاريخها في أربعمائة صفحة فقط. كما ترد إلى ذهني رواية الهندية أرونداتي راي "إله الأشياء الصغيرة"، وهي أيضا رواية عظيمة، وجاءت بعد إلمام تام بالحيل كما أعتقد.

رغم كون الكتابة علما يمكن تدريسه للراغبين في اتخاذها مهنة، فإنها أيضا علم بلا أدوات ثابتة، بمعنى أن ما يفعله كاتب من أجل الإيحاء قد يدمر كاتبا آخر ويطرد الإيحاء منه إلى الأبد

القارئة -صاحبة الرسالة- ضمنت رسائلها خمس قصص قصيرة جدا، أو ومضات كما تسمى، وهو نوع من القصص لا أقرأه عادة، وأشبهه في أفضل حالاته باللقم غير المُشبِعة من طعام جيد.

هم يشيرون إلى اعتقال اللحظة، واختزال الوصف، وتقديم ذروة الحكي في ومضة، وأنا من الذين يبحثون عن الحكي الذي يُدخلني مجتمعا ما، أو يجعلني أجلس في الشارع ساعات، أراقب ما يحدث حولي، أو أطل من باب موارب على حياة عامرة، تمور داخل بيت.

ما أحسسته وأنا أقرأ تلك الومضات هو أنها نتجت من خبرة  كبيرة، وأن ثمة تراكيب جيدة ستصنع كتابة ما إن استُخدمت داخل نص روائي.

أما السؤال عن الطقوس المطلوبة لكاتب سيطرق باب الكتابة لتجميع الحكي المشتت، وتضفيره في نص، فإن الموضوع يختلف من كاتب لآخر بالتأكيد، ومعلوم أن الكتابة بالرغم من كونها علما يمكن تدريسه للراغبين في اتخاذها مهنة، فإنها أيضا علم بلا أدوات ثابتة، بمعنى أن ما يفعله كاتب من أجل الإيحاء قد يدمر كاتبا آخر ويطرد الإيحاء منه إلى الأبد.

وقد وردت في ثلاثة كتب قام بإعدادها الكاتب السعودي عبد الله الداود عشرات الطقوس لكتّاب من الشرق والغرب، وكانت شيئا مسليا أن نتعرف على طقوس كتّاب طالما أسرونا بكتابتهم.

هناك من يكتب في المقاهي وسط الضجة، ومن ينعزل في ركن صغير في بيته، ومن يتمشى باضطراب أثناء الكتابة، ومن يتأنق كأنه ذاهب إلى ليلة عرسه. وهكذا تجد الفروقات جلية، ولطالما كنت أستغرب من نفسي حين لا يأتيني الإلهام إلا في ركن صغير في مكان عام يمر به الناس ويلقون السلام، وأرد عليهم وأنا مستمر، لكن استغرابي زال حين تعرفت على طقوس أغرب وأكثر إثارة للدهشة، مثل الكتابة داخل المراحيض العامة وفي السجون، وغيرها.

بين القراءة والكتابة
وفي ما يخص سؤال "كيف تؤثر القراءة في الكتابة"؟ فأنا أعتقد أن القراءة هي وقود الكتابة، وما لم يكن الكاتب قارئا فلن تنضج له طبخة على الإطلاق، وهذا ما أعرفه بمجرد قراءتي لأحدهم، أي أستطيع أن أعرف إن كان قارئا أم لا؟

الفائدة ليست في نسخ أفكار الآخرين وتضمينها في نص، وليست سرقة أسلوب ما واستخدامه في نص، وإنما في اكتساب المعرفة والحيل، فمثلا حين تقرأ "طبل الصفيح" للراحل غونتر غراس، فأنت تدخل ألمانيا من بوابة التاريخ والجغرافيا، وإن وردت عنها خواطر في نص تكتبه، فهي خواطر نقية، ومدعمة بمعرفة مكتسبة، وليست مجرد شخبطة بلا معنى.

التاريخ يمنح إيحاءاته بسخاء، سواء تلك الإيحاءات التي يهبها بالوثائق، أو تلك التي يهبها كحوادث موازية ومتخيلة، ففي الحالتين تتولد نصوص مهمة وبديعة في رأيي

ونحن نقرأ قصص أميركا اللاتينية العظيمة بأقلام كتابها العظام، نكون قد قرأنا مجتمعات كاملة بكل ما فيها من خير أو شر، وتصبح التقنيات التي كتبت بها تلك القصص متوفرة في الذهن ونستفيد منها بلا شك.

كثيرا ما تحدثت عن كتاب "ألف ليلة وليلة" وكتاب "كليلة ودمنة"، بوصفهما من موحيات الكتابة العظيمة، فليست قراءتهما للتسلية وقضاء الوقت، بل لتعلّم تفعيل الخيال من قصص تبدو واقعية جدا، لكن الخيال يسرقها ليحلق بها بعيدا، مثل الفتاة الجميلة التي تتحول إلى طائر، والطائر الذي يحط على نافذة الفتاة الجميلة ويتضح أنه أمير مسحور، وتلك البهارات الكثيرة التي ترد في كل صفحة من صفحات ذلك الأثر الكتابي النادر، وأعني هنا "ألف ليلة وليلة" بالتحديد.

وقد نوهت إلى أننا نملك إبداعا مثل "ألف ليلة وليلة"، وأنه كان يمكن استخدام إيحاءاته، ولكن ذلك لم يحدث، وجاءنا اكتشاف تلك الكنوز داخله من الخارج، حين تم تفعيل الخيال استنادا إليه، ونجحت التجربة.

التاريخ أيضا من العلوم التي أرشحها للقراءة، كالتاريخ العربي والإسلامي الذي يهمنا جميعا، والتاريخ الخاص بكل دولة من الدول العربية، فكم من دروس سحرية يمكن انتشالها من عمق التاريخ؟ وكم من الدروس والعبر يمكن الاستفادة منها في نصوص جديدة، وكم من الشخصيات الغنية التي قد تشبه وقد لا تشبه شخصيات عهدنا الحالي.

التاريخ يمنح إيحاءاته بسخاء، سواء تلك الإيحاءات التي يهبها بالوثائق، أو تلك التي يهبها كحوادث موازية ومتخيلة، ففي الحالتين تتولد نصوص مهمة وبديعة في رأيي.

صاحبة الرسالة في الطريق الصحيح، وهي -كما يبدو- تسير على الدرب نفسه الذي سار عليه كتاب مهمون، نهلوا من ينابيع الكتابة العذبة.
________________ 

* كاتب وروائي سوداني

المصدر : الجزيرة