"في حنان الحرب".. حكايات الوجع السوري المديد

تصميم غلاف - عن كتاب "في حنان الحرب" للسورية نجاة عبد الصمد..

هيثم حسين

تتحدث السورية نجاة عبد الصمد في عملها "في حنان الحرب" عن وطن ممزق يضيع أبناؤه بمتاهات الاقتتال والحرب والتشرد والنزوح واللجوء والمخيمات.

وتنقل الأديبة حكايات سوريين في بلدهم وفي منافيهم وأماكن نزوحهم، وكيف أن الشوق للبلد والحياة الهادئة في ظلاله يظل أقوى من أي شعور آخر على الرغم من الحزن والقهر والأسى.

تعتمد الكاتبة على تركيب من النقائض في عنوان عملها، فالحرب التي تعرف بالشراسة والعنف والتدمير تكون محملة بشيء من الحنان الذي يعرّف بالحرب ويكون نقيضها واقعيا، لكنه يضاف إليها، ربما من منطلق التخفيف من حدة الكلمة، أو للإشارة إلى جوانب إنسانية تحفل بها، وكأن كل كلمة تحمل شيئا من ضدها في بنيتها ومعناها.

كتاب عبد الصمد -الذي نشرته دار مدارك بدبي (2015)- تكملة لكتابها السابق "غورنيكات سورية" الذي قدمت فيه وجوها وحكايات إنسانية على هامش الثورة السورية، ثم على هامش الحرب في ما بعد، ووصفت كتابها بأنه مرويات من النافذة الخلفية لأيام الوجع السوري.

كما قسمت القاصة عملها إلى عدة أجزاء، هي "نساء" و"أطفال" و"في دار الرعاية" و"مواطنون فدائيون" و"في حنان الحرب"، ويضم كل جزء عددا من القصص التي تساهم في رسم لوحة الوجع السوري المديد.

اغتيال وطن
تصف الكاتبة الحرب والطاغية بـ"الطاعون" لأنهما يفتكان بالحياة الطبيعية ويبعدان البشر عن إنسانيتهم، ويسلبان الراحة والثقة والأمان. وتتحدث عن هجرة العقول، عن العمال السوريين في لبنان، عن النازحين والنازحات في أكثر من مدينة سورية، عن آلام الأطفال وجروح الآباء والأمهات، عن اغتيال وطن بما ومن فيه على مرأى ومسمع من العالم.

الكاتبة تصف نساء سوريات من مختلف الطبقات والأماكن، وتتحدث عن مساعيهن لإنقاذ أنفسهن وأسرهن، وتستذكر كيف كن مدللات وخريجات جامعة وموظفات وسيدات أعمال ومهنيات وفنانات.. كانت لديهن أملاك ومجوهرات.. ولم يختبرن ضنك الحياة

تصف الكاتبة نساء سوريات من مختلف الطبقات والأماكن، وتتحدث عن مساعيهن لإنقاذ أنفسهن وأسرهن، وتستذكر كيف كن مدللات وخريجات جامعة وموظفات، وسيدات أعمال، ومهنيات، فنانات.. كانت لديهن أملاك ومجوهرات.. لم يختبرن ضنك الحياة، ولم ينقصهن المال يوما.. نساء صرن في الحرب بلا بيوت، وبلا أزواج، أو نجا بعض رجالهن بعد خسران كل ما بنوا، فهبت عقولهن تدفعها غريزة الحياة.

تقول نجاة إن الحياة ولا سواها علت ببطلاتها إلى غيماتها ليرسمنها من الأعالي، بعيونهن هن لا بالعيون الحسيرة التي أراد الجلاد الأعشى أن يطمس بها كل ألوان الحياة في سوريا.

من تلك النسوة مثلا زهرة، امرأة بسيطة تحلم بحياة هادئة، هي صورة لنساء حكايات الكاتبة، صورة لأم وليد، مرآة لغيرها.

زهرة التي تعيش في بحر البؤس وعلى ضفاف الشقاء تتنقل من قريتها التي طالها القصف والدمار في الغوطة إلى دمشق بعد مصاعب، معها ابنها اليتيم الذي يعيش حالة نبذ جراء لونه الأسود الذي اكتسبه من والده السوداني، وجراء اسمه عمر.

الانتقال الاضطراري يحول زهرة إلى أم عمر، تنضم إلى جماعة من النسوة يعملن بكد ويكسبن قوتهن بعرق جبينهن ويثبتن حضورا واقعيا متحديات الظروف القاهرة التي تحرمهن من أمومتهن وأبنائهن وأزواجهن وحياتهن. 

وتشير صاحبة "بلاد المنافي" إلى أن كثيرات هن النساء اللاتي أنجبن بعد اللجوء طفلا أو اثنين، وما زلن يحرصن على إنتاج الأطفال في ظروف النزوح الكارثية، وهذه هي طريقتهن في التعبير عن جريان الحياة رغم عصف الموت.

الطاغية يقول "ما زال هؤلاء الأطفال كثرا، كيف نجوا من مناجل جيوشي السبعة التي أهلتها بضباع طبعي، كيف نجوا من البراميل، وكيف نجوا حتى من الغاز؟!"

تختصر قصة نجاة عبد الصمد القصيرة "عبء" الواقع من وجهات نظر مختلفة، وتركز على العدد الكبير للأطفال السوريين الذين حرموا من الأهل والدراسة والأمان، كل طرف يرى العبء من منظوره المغاير، فمثلا يقول المراقبون الدوليون "كثر هم الأطفال الشاردون في السوق، كثر هم في الأزقة الفرعية وفي المساجد والكنائس والخيام".

ويقول المراسل الصحفي الأجنبي "كيف سينفقون عمر الطفولة بعيون حولاء ما بين خيالات الدفاتر والأقلام والألعاب السلمية في الذاكرة، وبين الأسلحة الحقيقية الفاتنة الفوهات واللذيذة الدوي حين تأمرها أيادي الجند فتأتمر".

ويقول الطاغية "ما زال هؤلاء الأطفال كثرا، كيف نجوا من مناجل جيوشي السبعة التي أهلتها بضباع طبعي، كيف نجوا من البراميل، وكيف نجوا حتى من الغاز؟!". أما الذي قلبه على وطنه فيقول "كثر هؤلاء الأطفال، كيف سنؤويهم في المدارس، كيف سنصحح حَوَل أبصارهم، كيف سنفتن عيونهم الشاردة بعبارة اقرأ..؟".

صور وأمنيات
ترمز الكاتبة في حكاياتها إلى ضرورة التحلي بالجرأة للنظر في الواقع ومجرياته، ووضع الأمور في نصابها وموقعها، فالمحارب الذي يفقد نظارته يطلب من زميله أن يبحث معه عنها، ويتمنى لو يلقاها ليرفعها إلى عينيه ويعتذر منها، ويحدق عبرها في صورة السماء، في صورة أهله مضمخة بدمه في جيب قميصه العسكري، ثم يمضي بسلام ليرقد بأمان.

بائع الشيح لا يعرف لماذا تقوم الثورات، هو يعرف فقط كيف ينهض عند الفجر ويمشي نحو التلال ويقطف النبتة البرية، يذهب ليبيعها في السوق ولا يبخس مكياله، له أخلاق ثائر، لأنه وفي لكل ما يقوم به، وفي لذاته وعمله

كما يحضر لديها "بائع الشيح" الذي يختصر الرجل البسيط، يتحلى ببراءة المواطن العادي ويستلهم عاداته كنبع أخلاق الثورة، النبع الذي كان اسمه "حرية، كرامة، دولة قانون".

بائع الشيح لا يعرف لماذا تقوم الثورات، هو يعرف فقط كيف ينهض عند الفجر ويمشي نحو التلال ويقطف النبتة البرية، يذهب ليبيعها في السوق ولا يبخس مكياله، له أخلاق ثائر، لأنه وفي لكل ما يقوم به، وفي لذاته وعمله.

وتلفت الكاتبة النظر إلى مأساة النازحين الفلسطينيين في سوريا عبر حكاية الفلسطيني محمود الذي ينزح من مخيم اليرموك إلى المجهول، وهو النازح أصلا من بلاده.

الطفل الذي يتحمل مسؤولية أسرته، يكبر قبل أوانه، يفقد براءته وطفولته، يظل باحثا عن لقمة تقيه وأهله الجوع والذل، ويصاب بشظية تجرحه.

ثم تتحدث عبد الصمد عن طفل تأخر أهله في السوق وحين عادوا لم يصدّق ولم يركض لعناقهم، ولم يقل لهم إنه ما زال يرسم في خياله أشكالهم ميتين تحت القصف، ثم يحتضن ألعابه وهو يرجوها ألا تموت.

تختم عبد الصمد حكاياتها بمقطع يعكس أمنيتها ورغبتها بغد أفضل، بحلم تخشى عليه من الواقع، جازمة أن سوريا التي كانت قبل الحرب اليوم حلوة كدبس العنب، ستفيق على الأرض مثلما هي في خاطر الدنيا حلوة وزكية.

وبخط غامق تضع الكاتبة السورية الجملة الأخيرة -من باب التأكيد عليها- فتقول "لن تستمر الحرب إلى الأبد، لن يدوم هذا الخراب"، مؤكدة بذلك على حتمية انتهاء المأساة ووضع حدود لها، والأمل الواجب بالمستقبل.

المصدر : الجزيرة