"سيّيرا دي مويرتي".. ظل الحرب الأهلية الإسبانية بالجزائر

غلاف لرواية "سيّيرا دي مويرتي" للجزائري عبد الوهاب عيساوي

الخير شوار-الجزائر

تشهد الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939) حضورا واضحا في أحداث المغامرة السردية الجديدة "سيّيرا دي مويرتي" للروائي الجزائري عبد الوهاب عيساوي الصادرة سنة 2015 عن منشورات "الرابطة الولائية للفكر والإبداع" بمدينة الوادي في الجزائر.

ويبدو من الوهلة الأولى أن الكاتب اختار موضوعا غارقا في التاريخ العالمي المعاصر وبعيدا عن "محليته" الضيقة، غير أن قراءة المتن تبيّن عكس ذلك تماما. فأي رابط بين تلك الحرب التي كانت بمثابة "بروفة" تحضيرية للحرب العالمية الثانية، ومدينة الكاتب (الجلفة) في منطقة "السهوب" الجزائرية على بُعد 300 كيلومتر جنوب مدينة الجزائر؟

سرعان ما سيكتشف القارئ للمتن أنه يتموضع في قلب التاريخ المحلي الجزائري، كما يجد نفسه في الوقت ذاته في قلب الحرب الأهلية الإسبانية بكثير من تفاصيلها الإنسانية التي لا يمكن لكتب التاريخ أن تصوّرها بتلك الطريقة.

عالم في معتقل
المكان هو "عين أسرار" الموجود بمنطقة الجلفة الجزائرية، والذي كان معتقلا زمن الاحتلال الفرنسي للجزائر ووجد كثير من الجمهوريين الإسبان بعد هزيمتهم على يد جيش الجنرال فرانكو أنفسهم يُساقون إليه مكرهين، وهم يجترون مرارة الهزيمة وخيبة المآل في تلك المنطقة الباردة.

السارد استطاع في هذه الرواية اختصار الواقع الدولي الذي جرت فيه أحداث الرواية في معتقل ببوابة الجنوب الجزائري، حيث اضطر كثير من المسيحيين والشيوعيين واليهود والمسلمين للعيش في ذلك المكان

وهذا المكان شكّل بعض ذكريات المفكر الفرنسي الراحل روجيه غارودي عندما دفع فاتورة معاداته لحكومة فيشي زمن الحرب العالمية الثانية وأنقذ بعض الجزائريين حياته بعدما رفضوا إطلاق النار عليه داخل ذلك المعتقل، لتتغيّر حياته الفكرية إلى الأبد انطلاقا من تلك اللحظة الإنسانية النادرة.

استطاع السارد في هذه الرواية اختصار الواقع الدولي الذي جرت فيه أحداث الرواية في معتقل ببوابة الجنوب الجزائري، حيث اضطر كثير من المسيحيين والشيوعيين واليهود والمسلمين للعيش في ذلك المكان، وهو معادل موضوعي للحرب الطاحنة التي كانت تأكل العالم وقتئذ فأتت على حياة عشرات الملايين وغيّرت الواقع الدولي إلى الأبد.

فأن تعيش كل تلك "الملل" داخل معتقل مسلوبة الإرادة يعني أن الموضوع يتعلّق بتصوير كاريكاتوري للعالم انكشفت كثير من أسراره في المكان الذي لا يزال يسمى إلى الآن "عين أسرار" أو "عين الأسرار" كما جاء في المتن الروائي.

وبعيون الأسرى الإسبان الذين أنهكتهم الحرب الخاسرة نقرأ واقع الجزائريين في ذلك الوقت من سكان منطقة الجلفة، فالسكان الجزائريون رغم وضعهم البائس تحت نير الاحتلال الفرنسي وفي زمن الحرب العالمية الثانية كانوا يساهمون في تهريب هؤلاء المساجين من المعتقل لقضاء أوقات خارجه.

تاريخ يعيد نفسه
ولئن كان السياق يقتضي طغيان العنصر الإسباني على مجمل الأحداث، فإن "الصبائحية" -وهم فريق من الفرسان المحليين الذين كانوا مكلفين بحراسة المكان- كان لهم نصيب من الأحداث.

أن يقول الروائي على لسان بطله الإسباني "رأيت الصبائحي يسحب لجام فرسه، وبدا لي يومها مثل نبي، قدم من بادية قديمة، من أجل أن يوقف انهمار الدماء في المدن العارية"، فكأنه يتكلم عن عالمنا هذا الذي نعيشه والذي تمزّقه الحروب

فـ"الصبائحي أحمد" لم يكن مجرد شخصية ثانوية، بل كان له تصرّف مصيري في صيرورة الأحداث، فعندما كاد الإسبان يستعدون للقاء الموت "ظهر الصبائحي على فرسه، ثم نزل وهو يعبر البوابة، ونظر إلى أصدقائه من الحرّاس نظرة عتاب، ولكنها كانت أكثر قسوة وهو يرفعها تجاه غرافال: لسنا نحن الذين نرفع السلاح في وجه الأسير، يا سيد غرافال. ازداد حنقه وهو يسمع عبارات التحدي منه، وتقدم منه، لكنه لم يجرؤ أن يرفع يده، أو يقوم بأي حركة، عطلته نظرة الصبائحي القاسية، وجعلته يكرر نفس الكلمات: افصلوا الإسبان.. افصلوا الإسبان".

وقبل أن يفكر بطل الرواية السيد مانويل في البحث في المكسيك عن "وطن بديل لإسبانيا" التي سيطرت عليها قوات فرانكو، كان قد تغيّر تماما مثلما حدث بعد ذلك مع المفكر الفرنسي روجيه غارودي على يد "صبائحي" آخر خارج هذا المتن الروائي.

يواصل الروائي الجزائري عبد الوهاب عيساوي -الذي سبق له أن أصدر عمله الأول "سينما جاكوب" عن منشورات فيسيرا بالجزائر- الاشتغال على الذاكرة في هذا السفر الروائي الثاني، لكنه هذه المرة يذهب إلى التاريخ المعاصر ويختار منه زاوية تكاد تكون غير مطروقة.

ولأن العمل الناجح يبدأ من العمل الناجح ولن يتوقف عند طريقة تناوله، فلم يكتف بالوقائع التاريخية المعروفة، بل جعل النص مرد إطار لحكايات إنسانية تلتقي فيها الكثير من الجنسيات والديانات في مكان يعرف الكاتب جيدا.

فأن يقول الكاتب على لسان بطله الإسباني "رأيت الصبائحي يسحب لجام فرسه، وبدا لي يومها مثل نبي، قدم من بادية قديمة، من أجل أن يوقف انهمار الدماء في المدن العارية"، فكأنه يتكلم عن عالمنا هذا الذي نعيشه والذي تمزّقه الحروب.

المصدر : الجزيرة