"الأوركسترا الليلية".. حكايات المنفى وتهديم الذات

عن رواية (الأوركسترا الليلية) للإيراني رضا قاسمي

هيثم حسين

يرمز الإيراني رضا قاسمي في روايته "الأوركسترا الليلية" إلى حالة التناغم التي يفتقدها الغريب في منفاه، حيث يعيش نوعا من التخبط بين ماضيه وحاضره ويفتقد أمانه المنشود، فيجد نفسه فريسة للوساوس والتخيلات التي تشكل فيما بينها مزيجا موسيقيا كأنها أوركسترا تجتاحه في ساعات الليل التي تطول وتلقي بظلالها على جوانب حياته كلها.

يوزع قاسمي (ولد بأصفهان عام 1950) روايته -التي نشرتها دار الربيع العربي في القاهرة بترجمة غسان حمدان 2015 واعتبرت من أكثر الروايات مبيعا في إيران- على خمسة فصول هي على التوالي "لا يا غابيك، ليس هنا!"، "سطح فضي باهت"، "حضور من نوع حضور الحروف"، "حزنا على بحر ضائع" و"الجوارب المحاكة يدويا صناعة إيرانية".

وينشطر الراوي العليم بين حياتين، إذ يستعيد الزمن الماضي بآلامه وأحلامه ويتخيل زمنه التالي الذي يجمع بين الراهن والمستقبل المتخيل، بحيث يكون الخيال جسره إلى داخله، ويحاول من خلاله إجراء نوع من المصالحة والوئام مع نفسه ومحيطه، فيرسم مخططاته المتخيلة ويحلم من دون قيود، ثم يظل رهين خياله الذي لا يتحقق واقعه الذي يزيد الضغوط عليه.

الراوي في "الأوركسترا الليلية" يظل غريبا في حله وترحاله، فيصف نفسه بقوله إنه عاش كل عمره في النصف الشرقي بتوقيت النصف الغربي للكرة الأرضية

لعبة المرايا

يبدأ قاسمي المقيم في فرنسا روايته من لحظة الذروة، وهي عودة بطله إلى مسرح الجريمة التي اقترفها، إذ ضرب أحدهم بالمعول فأجهز عليه، ويحار إن كان قد ارتكب الجريمة واقعيا أم في تخيلاته فقط، وتكون تلك شرارة الدخول في عالم التناقضات المتصارعة بالنسبة لغابيك الذي يسأل نفسه عن أسباب عودته إلى تلك البناية "لماذا الآن؟ بالضبط بعد شهر ويومين من ليلة الحادثة؟ لماذا لم آتِ تلك الليلة ذاتها؟ كان يمكن إخبار الشرطة على الأقل؟".

ويظل الراوي غريبا في حله وترحاله، فيصف نفسه بقوله إنه عاش كل عمره في النصف الشرقي بتوقيت النصف الغربي للكرة الأرضية، وإنه في البناية التي يسكن فيها في باريس عندما يحل الليل كان الطابق السادس يصبح كوكبا صغيرا بالنسبة له وكان قبطانه الوحيد ولم يكن هناك من يعترض على هذا الأمر. ويذكر أنه واجه صعوبات واعتراضات نتيجة اختلافه عن الآخرين، وخاصة في مسألة نمط العيش.

حالة التشظي والانشطار تلازم الراوي، فيتواصل مع من حوله باعتباره أكثر من شخص ويتخيل طريقة تواصل معينة، فيكون الكاتب المتخيل ناطقا بهواجسه وأحلامه في حين أن الشخص الذي يتعاطى مع مجتمعه ينفصل عن ذاته الكاتبة، ويمارس ما يصفه بتهديم الذات وتدميرها.

ويعتمد قاسمي طريقة الرواية داخل الرواية، أو بناء رواية الشخصية المتخيلة والتذكير بكتابتها أثناء سرد أحداث الرواية وحبكها، بحيث تغدو جزءا من نسيج الرواية وتتداخل الرغبة بالكتابة بقوة التخيل، ويندمج عالم الخيال مع الواقع، ليشعر بطله أن الحوادث المسرودة والحكايات المستعادة تعود إلى الكتاب الذي ألفه قبل مدة طويلة، ولم ينشر قط.

قاسمي استعان في روايته بلعبة المرايا أثناء عرضه وسرده، فمرآة الشخصية داخلية وخارجية تمارس تظهير الصور المختلفة، ويتبين له أن مرآته تظهر صورة الأشياء وليس صورة البشر

يستعين قاسمي بلعبة المرايا أثناء عرضه وسرده، فمرآة الشخصية داخلية وخارجية تمارس تظهير الصور المختلفة، ويتبين له أن مرآته تظهر صورة الأشياء وليس صورة البشر، كما ويرى راويه العليم يتوجه إلى قرائه قائلا "أعلم أنكم ستظنون أنني مصاب بجنون الارتياب، وإن يكن، فأنا قد اعترفت بأمراض أسوأ منه". ويتحول جنون الارتياب إلى حالة انفصام خطيرة يقع معها نهبا لظنونه وتخيلاته، ليصل به الأمر إلى سؤاله نفسه "هل حدث لي أن ارتكبت جريمة قتل دون أن أشعر؟".

وتحضر شخصيات "فاوست مورناو، بروفت، السيد، مهدي، رعنا، فريدون.." لتكمل رسم مشهد الحياة العبثية التي يصورها قاسمي في روايته، وكعلامات على تيه بطله في رحلة البحث عن الذات المهدورة، إذ إن بطل الرواية يصف نفسه بأنه مثل شخص يبحث عن شيء مجهول بين الأثاث المغبر لمستودع مهجور، وكان يبحث بلا توقف عن جواب بين ذكرياته المبهمة والمنسية لسؤال لم يتضح له.

صمت وظلام
ويختصر قاسمي معاناة بطله في ثلاث علل "الانقطاع الزمني"، و"تهديم الذات" و"مرض المرآة"، حيث يبدو كأنه يواجه حالة مستعصية جدا، حتى رأى أنه أمام شخص يشبه آخر صورة له رآها في المرآة. وينتقل من وصف العلل إلى وصف حالة المنفي ومحاولته للتأقلم مع واقعه الجديد، ويعتبر أن كل منفي يحتاج إلى قاعدة ليتمكن من الدخول إلى الأرض الجديدة ولا يختار الشخص المنفي الأرض الجديدة، بل تراه يحاول تكييفها وتطويعها عبثا.

الراوي يسعى إلى النسيان الذي يصفه بأنه "دفاع الجسد الطبيعي ضد الألم". ويقول إنه أتى في النهاية ليخلص نفسه من الشر الذي فرض عليه بدخول أحدهم عليه كي لا تقع عيناه على أنفه الغريب وينسى سبب مجيئه

يستذكر الراوي الذي يكون كاتبا مفترضا، متماهيا مع الروائي نفسه، أنه كان قد كتب كتاب "التناغم الليلي لحفل أوركسترا الأخشاب" منذ سنوات عدة، قبل أن تقع أحداث الرواية كلها بزمن طويل. ويصفها بأنها قصة خياله تماما. وأنه في ذلك الوقت لم يكن يعرف أحدا من الشخصيات، ثم أصبحت حياته تشبه هذا الكتاب.

ويسعى الراوي إلى النسيان الذي يصفه بأنه "دفاع الجسد الطبيعي ضد الألم". ويقول إنه أتى في النهاية ليخلص نفسه من الشر الذي فرض عليه بدخول أحدهم عليه كي لا تقع عيناه على أنفه الغريب وينسى سبب مجيئه. ووجد أن الماضي يتسلل ليلا تحت شرشفه، وأنه يلازمه في الصمت والظلام مؤديا دوره في الأوركسترا الليلية المستعادة.

يستعرض قاسمي جانبا من الاختلاف الثقافي بين الشرق والغرب، سواء في طريقة التعاطي مع البشر أو الحيوانات، ويسرد مفارقة تعامل راويه مع الكلاب كمثال على الفروقات في التفكير والممارسة والنظرة، كما يذكر نفوره وخشيته السابقة من الكلاب في بلده ثم اضطراره إلى مجاملة الناس وربما مداعبة كلابهم في باريس، ويحكي كيف تم حسم الأمر لديه وتغيرت نظرته حين احتضن كلبا صغيرا، وأدرك بعدها أن تلك المعتقدات السابقة على الرغم من محتواها، لم تعد موجودة، إلا أنها ظلت مستمرة ظاهريا.

ويشير قاسمي إلى حالة تقييد المرأة الإيرانية وتنميطها، كما ينتقل من تحليل شخصية بطله إلى تحليل الشخصية الإيرانية، التاريخية والمعاصرة، فيقول "إن الإحساس بطلب الشهادة والظلم اللذين يعدان سمة إيرانية تماما، لم يسمحا قط على مر الزمن أن نحل شيئا يمكن حله بصفعة واحدة، وقد سمحنا أن يغلي دمنا عندما لا تحل هذه الأمور بالمجازر، وأن نحرق كل شيء وألا نقوم بحله". ناهيك عن الإشارة إلى جانب المظلومية ومن ثم الاستئثار بالسلطة والتحكم بالآخر الذي يتبدى في الرواية.

المصدر : الجزيرة