الأغنية العربية وفقدان الوزن الفني

علي البتيري..لقد أصبحنا في أمسّ الحاجة إلى فنانين يؤمنون بالدور الحضاري الذي يجب أن تضطلع به أمتهم، فيغوصون في عمق وجداننا وتراثنا ليخرجوا علينا بما نحب سماعه ومشاهدته

علي البتيري*

لا شك في أن الأغنية العربية هذه الأيام تعيش حالة فقدان الوزن، فهي لم تعد حائرة بين الأصالة والمعاصرة فحسب، بل أصبحت مجافية لأصالتها التي عرفت بها على مدى القرن الماضي، وتدير الظهر على يد نفر من المغرمين بالحداثة والتجديد لكل ما هو أصيل وعريق في الغناء العربي على مر العصور.

نكاد نرثي لحال الأغنية العربية وهي تلبس ثوبا موسيقيا غربيا ليس بثوبها الشرقي المتعارف عليه.

ولتطويع الأغنية العربية للموسيقى الغربية الهجينة كان لا بد من أن يلوي كتّابها الجدد أعناق الكلمات العربية كيفما اتفق، حتى سقطت الأغنية على أيديهم في ركاكة التعبير وسذاجة المعنى، مما أضعف صلتها بوجدان المجتمع العربي وبيئته، حيث باتت خاضعة لضحالة النظم والتصفيف اللغوي القسري والمصطنع والبعيد عن صدق العاطفة وعمق التعبير وجمال التصوير، خاصة أن معظم الأغاني العربية الحديثة مغرقة وغارقة في اللهجات العامية المحلية, فبتنا نجلس على مائدة غنائية لا تجذب فينا شهوة الاستماع ولا تنمّي لدينا ذائقة فنية.

روح الشعر
ولعل ما فاقم الأمور وزادها تعقيدا، إعراض الشعراء الحقيقيين وأصحاب المواهب الشعرية الأصيلة عن كتابة النص الغنائي الجيد البعيد عن الإسفاف والابتذال، مما فتح الباب لكل حامل قلم ليصبح شاعرا غنائيا يملأ الفراغ بكلام قابل للتلحين والغناء، ولكنه يخلو من روح الشعر، إلى درجة تدفع الناقد الفني إلى القول "أسمعُ جعجعة ولا أرى طحنا".

بات لزاما علينا أن ندعو إلى إحياء أغانينا من جديد، وذلك ببث الروح الشرقية في الموسيقى الغنائية المتفرنجة إلى حد بعيد، ولنا من التراث القومي والشعبي ما يكفي لتأصيل الأغنية العربية وتحريرها من الغزو الفني الأجنبي

إزاء هذا السيل الفائض بالأغاني الجديدة التي لا تطربُ أحدا غير "العاملين عليها"، بات لزاما علينا أن ندعو إلى إنقاذ الأغنية العربية من حالة فقدان الوزن هذه، وذلك بإخراجها من سوق هواة السجع وتجار الأوزان والقوافي الذين باتوا يضعون "بسطات" كلامهم المقفى على رصيف الأغنية العربية، وبازدحام يسد الطريق على كل غيور متحفز لإصلاح الوضع الفني المتردي الذي آلت إليه الأغنية في بلادنا العربية.

كما بات لزاما علينا أن ندعو إلى إحياء أغانينا من جديد، وذلك ببث الروح الشرقية في الموسيقى الغنائية "المتفرنجة" إلى حد بعيد، ولنا من التراث القومي والشعبي ما يكفي لتأصيل الأغنية العربية وتحريرها من الغزو الفني الأجنبي واستعادة دورها في الحياة الاجتماعية لتؤدي رسالتها الفنية في مضمار حركة المجتمع وتقدمه.

لقد أصبحنا في أمسّ الحاجة إلى فنانين عرب يؤمنون بالدور الحضاري الذي يجب أن تضطلع به أمتهم، فيغوصون في عمق وجداننا وتراثنا وبيئتنا ليخرجوا علينا بما نحب سماعه ومشاهدته، لنغني معهم بجدارة ونطرب بحرارة مثل باقي شعوب الدنيا التي ترفض الذوبان بأمانيها وأغانيها في ثقافات الشعوب والأمم الأخرى.

وحتى نقف على عتبة إحياء الأغنية العربية وإعادتها إلى جادة الصواب، لا بد للنقد الفني الجاد والأصيل أن يأخذ دوره ونصيبه في فتح الباب لأغنية عربية بديلة تقنعنا قبل أن تطربنا، فللنقد نصيب الأسد في إعادة ترتيب البيت الغنائي العربي.. هذا البيت الذي أصبح في أمسّ الحاجة إلى الترميم والصيانة والترتيب الذي يعيد له رونقه وجماله.

بين القديم والجديد
دعوتنا هذه لا تعني بحال إدارة الظهر لما طرأ على حياتنا من تطور حضاري وتغيير وحداثة على كل صعيد، فنتشبث بالماضي مطالبين بأن تبقى الأغنية العربية أسيرة له ورهينة عنده، فهي ليست دعوة إلى الانغلاق أو اتخاذ ماضي الأغنية ملجأ للسلامة الفنية العامة، وإنما هي دعوة صريحة لإصلاح شأن الأغنية العربية وإعادة هويتها الوطنية والقومية بالابتعاد بها عن التشويه والتغريب والفرنجة المتطفلة على فنون الأمم الأخرى.

الجمع بين الأصالة والمعاصرة في طبيعة الأغنية العربية الحديثة ضرورة فنية وحاجة حضارية ماسة تحفظ لنا شخصيتنا وهويتنا ومكانتنا في عصر العولمة واختلاط الثقافات والفنون

فالجمع بين الأصالة والمعاصرة في طبيعة الأغنية العربية الحديثة ضرورة فنية وحاجة حضارية ماسة تحفظ لنا شخصيتنا وهويتنا ومكانتنا في عصر العولمة واختلاط الثقافات والفنون.

لا بد من المحافظة على الطابع الشرقي العربي لأغانينا، ولا ننسى أن للأغنية تأثيرا كبيرا على مجتمعاتنا، وبخاصة الأجيال العربية الجديدة المعرضة أكثر من غيرها لمد الحضارة الغربية الذي يحيط بنا من كل جانب.. ولنتذكر هذا القول المأثور ونحن نعرض لحال الأغنية العربية "مَن أشهر سيفا في وجه الماضي، أطلق عليه المستقبلُ رصاصة".

لدينا المواهب والطاقات والقدرات والكفاءات لإعادة الأغنية العربية إلى سابق ازدهارها وتألقها، ولا ينقصنا في عالمنا العربي إلا قناعة واتفاق على إعادة النظر في الوضع الغنائي برمته من أجل الحفاظ على الهوية العربية للأغنية من جهة، والارتقاء بها لحنا وكلمة وأداء من جهة ثانية، حتى يعود لها مجدها الفني الذي صنعه الرواد من شعراء وموسيقيين ومُطربين كبار ما زلنا نعتد بهم ونستذكرُ جهودهم الفنية التي ارتقت ولا شك بالمستوى الغنائي العربي كما ارتقت بمشاعرنا وأذواقنا وثقافتنا أيضا.

لا بد من إستراتيجية فنية عربية ننطلق من خلال ما ترسمه لنا من رؤية وأهداف إلى آفاق جديدة لصناعة الأغنية بما يضيف لها من وهج وإبداع وبما ينتشلها من وضع هابط تعاني فيه من فقدان وزنها الفني، حتى لو استدعى ذلك عقد ملتقى فني عربي للبحث في أزمة الغناء العربي وسبل الارتقاء بالأغنية العربية الحالية.

ودون ذلك، ستبقى الأغنية العربية بلا هوية حضارية تميزها وبلا سمات فنية نابعة من بيئتنا وغير بعيدة عن قيمنا ومُثلنا وعاداتنا الاجتماعية، ومعبّرة عن أفراحنا وأحزاننا وأحلامنا الخاصة بنا، ومستشرفة لطموحنا نحو مستقبل عربي يكون أكثر إشراقا.
_________________
* كاتب وشاعر فلسطيني 

المصدر : الجزيرة