انعدام الأمن الثقافي ومأزق الهوية الفرنسية

كتاب انعدام الأمن الثقافي وقلق الهوية الفرنسية

الصحبي العلاني

عندما شرع أخطبوط العولمة في التمدد مكتسحا أرجاء المعمورة غير عابئ بالحواجز والحدود ظنت الأمم الغالبة أن ثقافاتها في مأمن، وأن الأعاصير التي مست الآخرين وهزتهم هنا وهنا عبر أرجاء العالم ستظل تضرب بعيدا عنها وإلى ما لا نهاية.

غير أن الباحث الفرنسي لوران بوفي يفند هذا الوهم من خلال كتابه الصادر أخيرا تحت عنوان "انعدام الأمن الثقافي"، وهو كتاب يعالج مسألة العولمة من منظور طريف يبدو لنا فيه وجه الثقافة الفرنسية أكثر شحوبا مما نتوقع، وهي التي أضحت تنوء بأثقال هوية مأزومة.

قلق معمم
بملاحظة لغوية في غاية البساطة وفي منتهى الدلالة يستهل لوران بوفي الفصل الأول من عمله لافتا الانتباه إلى أن "مصطلح العولمة ذاته -هذا الذي استعمل في الفرنسية كترجمة للفظة الإنجليزية (Globalization)-كان مجهولا تماما لدى الفرنسيين إلى حدود التسعينيات".

ظل ثلاثة أرباع الفرنسيين يعتقدون أن العولمة ظاهرة إيجابية إلى حدود سنة 2007، وأنها ستكون في صالح الدول العظمى وشعوبها، بل في صالح كافة الدول دون استثناء، ولكن الأحلام الوردية سرعان ما انقلبت إلى كوابيس

ففي تلك السنوات ذات الإيقاعات المتسارعة المفاجئة المتقلبة (سنوات سقوط جدار برلين 1989 واندلاع حرب الخليج الثانية 1990 وتفكك الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة وهيمنة القطب الواحد 1991) أُخذت فرنسا على حين غرة، وهي البلاد المتقدمة في اقتصادها وفي سنها أيضا!

وقد كان لزاما عليها -برضاها حينا، ورغما عنها في معظم الأحيان- أن تساير المستجدات الطارئة وأن تتأقلم مع التحولات التي مست الكون من جذوره، إلى أن وجدت نفسها تنساق شيئا فشيئا نحو مسارات غامضة مجهولة لا قبل لها بها.. مسارات تتخطى قدراتها وتتجاوز طاقة احتمالها.

وإلى حدود سنة 2007 ظل ثلاثة أرباع الفرنسيين يعتقدون أن العولمة ظاهرة إيجابية، وأنها ستكون -بكل تأكيد- في صالح الدول العظمى وشعوبها، بل في صالح كافة الدول دون استثناء.

غير أن الأحلام الوردية سرعان ما انقلبت إلى كوابيس سوداء عندما أصبح رفض الفرنسيين العولمة -سنة 2011 وما بعدها- موقفا عاما صريحا يتبنونه وهم الذين أعيتهم البطالة وتنامي مظاهر الفقر وهشاشة الوضع الاقتصادي والانفلات المتواصل للتوازن الكوني، إلى درجة أنهم أضحوا يشكون في جدوى اقتصاد السوق، بل وفي جدوى النظام الرأسمالي نفسه.

والأخطر من هذا وذاك أنهم أصبحوا يعبرون -كل بطريقته- عن قلق عميق يتجاوز أوضاعهم الاقتصادية ومواقعهم الاجتماعية ومواقفهم السياسية ليمس بعنف أصل هويتهم الثقافية مهددا بنسفها وتقويضها من الجذور.

 الوعود والحدود
حين بدأت العولمة في فرض أحكامها -بما هي نمط اقتصادي يتم في نطاقه تبادل البضائع والمنافع والخدمات- كان لزاما عليها أن تقوض الحدود وأن تلغي الحواجز حتى يكون بمقدورها أن تحمل إلى "كل شعوب العالم" وعودها بالرفاهية، وبتقاسم ما وضعته تحت يافطة "الجهد الإنساني المشترك".

اتضح للفرنسيين أن وعود العولمة مجرد حذلقات كلامية لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تحمي من فقر أو بطالة، وذلك ما دفع أعدادا متزايدة منهم إلى تبني مقولات سياسية شعبوية أكدها تصويتهم المتتالي لفائدة أحزاب أقصى اليمين

غير أن هذا النمط الجديد الذي أتقن تسويق نفسه على أساس كونه الأنموذج الأرقى للتقدم والصيغة المثلى للتعبير عن القيم الإنسانية تغافل عن حقيقة جوهرية ألح لوران بوفي على التذكير بها في أكثر من موضع من كتابه، حقيقة أن الأفراد كما الجماعات يحتاجون إلى الحدود أكثر من حاجتهم إلى الوعود.

ففي الحدود، وفي الحدود وحدها (حدود الذات/الفرد أو حدود الفئة المهنية أو الطبقة الاجتماعية أو الحزب السياسي أو الوطن/فرنسا أو القارة/أوروبا) يتحقق الوعي بالهوية ويتجلى الإحساس بالتوازن ويتكرس الشعور بالأمان.

أما الوعود، وعود العولمة فقد اتضح للفرنسيين -تدريجيا- أنها مجرد حذلقات كلامية لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تحمي من فقر أو بطالة، وذلك ما دفع أعدادا متزايدة منهم إلى تبني مقولات سياسية شعبوية أكدها تصويتهم المتتالي لفائدة أحزاب أقصى اليمين، سواء في الانتخابات المحلية أو الوطنية أو في الاستحقاقات الأوروبية.

واستنادا إلى المعطيات الإحصائية الاستقصائية استخلص لوران بوفي الدرس الأهم فنادى بضرورة إجراء مراجعات فكرية ومنهجية عميقة تتيح الجمع بين دائرتين تعود الفرنسيون على التعاطي معهما بشكل منفصل: دائرة الاقتصاد والسياسة والاجتماع من ناحية، ودائرة الثقافة من ناحية أخرى، حجته في ذلك أن "مسألة الحدود -كما يقول- تتيح لنا أن نفهم امتداد الاقتصاد في الثقافة ضمن تمثلاتنا للعولمة".

وعن هذه المراجعات الفكرية المنهجية انبثق مفهوم لوران بوفي لـ"انعدام الأمن الثقافي" باعتباره -كما يقول- "تعبيرا عن حيرة وعن خشية، بل تعبيرا عن خوف تجاه ما نحياه (يقصد الفرنسيين) وما نراه وما ندركه وما نشعر به، الآن وهنا، "في عقر دارنا".

وهذه حيرة وخشية وخوف من مظاهر التشويش في نظام العالم، ومن التغيرات في المجتمع ومما قد يبدو لنا -في الحين ذاته- قريبا أو بعيدا، مألوفا أو غريبا.

ومن وراء هذا التوصيف الذي تغلب عليه السوداوية والقتامة يطرح لوران بوفي السؤال الأهم الذي عليه مدار الكتاب كله "ما الذي يجعل الثقافة الفرنسية على هذا القدر من الهشاشة؟".

أزمة الثقافة الفرنسية
على قيم التعدد والاختلاف والانفتاح تأسست الهوية الثقافية الفرنسية مستلهمة "الخطابات الإنسانوية" لمفكري عصر الأنوار مسندة ظهرها إلى نظام جمهوري حرص على أن يظل متماسكا صلبا رغم الهزات المتتالية التي كادت تعصف به، والتعديلات المستمرة التي طرأت عليه بدءا من زمن الجمهورية الأولى (1792-1804) انتهاء إلى زمن الجمهورية الخامسة الراهنة (1958-2015).

طفت على السطح قضايا عديدة قد تكون اقتصادية في تجلياتها الخارجية، ولكنها في جوهرها ثقافية محض، وفي طليعتها قضيتا الهجرة والحضور الإسلامي اللتان أظهرتا عجز النخب الفرنسية عن صياغة إجابة جريئة مطمئنة

غير أن نجاح هذا النظام في تعديل أوتار مؤسساته وفي التكيف مع مقتضيات السياسة الداخلية وتحولات الأوضاع الإقليمية والعالمية لم يكن بمثل نجاحه في المحافظة على القيم العليا التي تأسس عليها وطالما تغنى بها، ونعني بذلك "قيم الجمهورية"، هذه التي ظن الفرنسيون أنها جامعة مانعة متعالية عن شروط التاريخ وإكراهاته إلى أن أحدثت فيها العولمة ذلك الشرخ العميق الذي فجر التناقضات وكشف عن مواطن الهشاشة والخلل.

ولهذا طفت على السطح قضايا عديدة قد تكون اقتصادية في تجلياتها الخارجية، ولكنها -في جوهرها- ثقافية محض، وفي طليعتها قضيتا الهجرة والحضور الإسلامي اللتان أظهرتا عجز النخب الفرنسية عن صياغة إجابة جريئة مطمئنة قادرة على تضميد جراح هوية منكسرة، وجريحة، ومأزومة أضاعت بوصلتها وأضحت تبحث عن تأمين الشعور بالانتماء والاندماج والوحدة في عالم يدفعها دفعا إلى مزيد من التشظي والتفرقة.

في كتابه "انعدام الأمن الثقافي" -هذا الذي طرح في المكتبات -ويا للمصادفة! صبيحة الهجوم على جريدة "شارلي إيبدو"– يرسم لوران بوفي صورة شاحبة عن واقع ثقافة عريقة يخشى عليها أن تتكلس وتتقوقع وتنغلق في اللحظة التي تنسى فيها أن "الآخر" -أو بالأحرى "الآخرين"- ليسوا أغيارا مرفوضين، بل هم جزء من مكونات الهوية الفرنسية الصميمة.  

المصدر : الجزيرة