اختلاف

أمير تاج السر - أتمنى أن أجد وقتا لأكتب، إذ عندي ذكريات كثيرة جمعتها من أماكن عدة وأريد أن أكتبها، ولن يهمني لو مات الكتاب عند باب الخروج أو اعتبر عروسا سيئة التجهيز

أمير تاج السر*

من عادتي حين أبدأ عملا -سواء أكان ذلك كتابة أو قراءة- أن أكمله حتى النهاية، لذلك تراني حين أكتب نصا، أنشغل بشكل يومي مهما كانت الظروف.

وربما أؤجل سفرا كنت أنوي القيام به، أو مهمة كلفت بها إلى وقت آخر، حتى لا ينقطع سيل الكتابة، وإلا قد تضيع مني الحكاية، وتذهب إلى سلة ما أسميها "النصوص المهملة"، وهي أشبه بسلة مهملات ترقد بداخلها نصوص لم تكتمل لسبب أو لآخر ولن تكتمل أبدا، وفيها نصوص كنت أعتبرها في لحظة الكتابة هامة.

بالنسبة للقراءة، الأمر شبيه بالكتابة إلى حد ما، فالكتاب الذي أبدؤه لا بد أن أكمله حتى لو استغرق زمنا طويلا، وهنا تتفعل عندي بشكل مخيف خاصية القراءة اليومية، حيث أقرأ في أي وقت وأي زمن متاح، حتى أثناء تناول الطعام، أو وقت الاسترخاء الذي اعتدت عليه، وأوقات الانتظار في الأماكن العامة.

والكتاب الذي أتركه قد لا أعود إليه مرة أخرى، وتتكدس الآن في مكتبتي عشرات الكتب التي توقفت قراءتها، ولن تعود.

تنوع الأذواق
لذلك صبرت على قراءة أعمال وصفت بأنها ناجحة، برغم ما في بعضها من ملل، مثل "عالم صوفي" للسويدي جوستاين غاردر، و"جزيرة اليوم السابق"، و"مقبرة براغ" لأمبرتو إيكو، ولم أحب "شيطنات الطفلة الخبيثة" ليوسا، أو بعض ما كتبه كونديرا وباولو كويلو على سبيل المثال، لكني أكملت ما بدأته من تلك الأعمال.

صبرت على قراءة أعمال وصفت بأنها ناجحة، برغم ما في بعضها من ملل، مثل "عالم صوفي" للسويدي جوستاين غاردر، و"جزيرة اليوم السابق"، و"مقبرة براغ" لأمبرتو إيكو

في خضم الأسئلة التي تواجهني دائما، إما من أصدقاء أعرفهم ويعرفونني، أو قراء لا أعرفهم وألتقي بهم عبر رسائل الهاتف والبريد الإلكتروني، سألتني مرة واحدة عن كتاب تمنيت أن أقطع يد الذي كتبه، لأنها أرادت أن تفعل ذلك حين قرأت مؤخرا رواية رائجة لواحد من جيل الشباب.

كان بالطبع رد فعل عنيفا على فعل القراءة لرواية أحبها البعض ولم يحبها البعض الآخر بكل تأكيد، كما يحدث في تذوق أي شيء حتى الأكل والشرب والوجوه والملابس والألوان، والسلوك العام.

ولو كان رد الفعل بهذا العنف عند الجميع لتوقف النتاج الإنساني، سواء أكان كتابة أو زراعة أو حصادا أو تجارة، وحتى لا يأتي أحد كارهي لحم الخراف مثلا، ليقطع يد جزار يبيعه، أو كارهي الثوم ليذبح مزارعا ملأ به أرضه.

ولأنني من الذين يردون على المراسلات حتى لو كانت لغوا وبلا أي معنى، فقد رددت على القارئة.. قلت لها: احذفي هذا الكاتب من لائحة الذين ستقرئين لهم مستقبلا، ولن يضايقك في شيء، ذلك أن الحذف في أي شيء، علاج جيد، وقطعا ذلك أفضل من التفكير في السكين التي استخدمتها أنت نظريا، فهي دليل على العنف حتى لو لم يحدث في الواقع.

واكتشفتُ بعد رسالة القارئة تلك، أننا بالفعل غير واعين لضرورة الاختلاف في وجهات النظر التي أعتبرها الحجة الكبرى ضد سياسة القطيع، وينبغي أن نرعى اختلاف وجهات نظرنا ونحتفل بها، مثلما نفعل مع الاتفاق. فنحن نسمع عن حفل بمناسبة توقيع اتفاقية ما ولا نسمع بحفل نتيجة عدم توقيع اتفاقية بسبب اختلاف وجهات النظر.

في مرآة القارئ
مرة أخبرني أحد الزملاء -وكان كاتبا له طريقة مميزة في الكتابة وجمهور جيد ينتظر إنتاجه دائما- أنه مستاء من بضعة قراء أساؤوا إلى روايته الأخيرة، ووصفوها بالركاكة والإسفاف، وأنه لن يكتب مرة أخرى حتى لا يقرأه الرعاع، ويبصقون على كتاباته النظيفة بلا مبالاة.

الإنترنت سوق للغالي والنفيس، والكتابة وجهات نظر، والقراءة وجهات نظر كذلك، وما تجده جيدا يجده غيرك ركيكا، وما تعبت من أجل أن يخرج بصورة ترضيك، تفاجأ بأن من استقبله لم يهش في وجهه

لقد كان الزميل حساسا بلا شك، وكل من يكتب حرفا أو يلحن أغنية أو يغني أو يطرب، فهو حساس بلا شك، والإنترنت سوق للغالي والنفيس، والكتابة وجهات نظر، والقراءة وجهات نظر كذلك، وما تجده جيدا، يجده غيرك ركيكا، وما تعبت من أجل أن يخرج بصورة ترضيك، تفاجأ بأن من استقبله لم يهش في وجهه وإنما أدار عينيه إلى الجانب الآخر، بلا مبالاة.

وحتى العروس التي تقضي أشهرا في اختيار زينتها من أجل ليلة العمر، وتظهر في تلك الليلة بهية وجميلة وفيها روعة الدنيا كلها، قد تسمع امرأة تهمس وهي تطالعها، واصفة إياها بالبشاعة، وثيابها بمخلفات سلال القمامة.

قلت للأخ الكاتب: عندي روايات لكتاب متنوعين، أحبها جدا وأعلن حبي لها، وأجد من يكتب ضدها باستمرار، وروايات كتبتها شخصيا، وزركشتها بحسب رأيي، واعتبرها البعض عروسا بلا مؤهلات، وهكذا.

حين كتبت قصة "إيبولا" -فيروس الحمى النزفية- بجهد كبير في لم المعلومات، واختيار المفردات، والكتابة بفزع كبير من أن لا يكتمل العمل، قرأت لكثيرين تحدثوا عن الإسفاف والعبارات الخادشة، في رواية ليس فيها أي خدش للحياء، والتجربة كلها لم يحدث أن جاء فيها ما يخدش الحياء أو يلسع لسان التذوق.

صديقي الكاتب يبدو مصرا على النفور من الإبداع وطرحه على الناس، وأنا على عكسه أتمنى أن أجد وقتا لأكتب، إذ عندي ذكريات كثيرة جمعتها من أماكن عدة وأريد أن أكتبها، وعندي تشنج خاص لا يزول إلا حين أكتب، ولن يهمني لو مات الكتاب المطروح عند باب الخروج أو اعتبر عروسا سيئة التجهيز ينبغي ذمها.
________________
* روائي وكاتب سوداني

المصدر : الجزيرة