مابانكو يتحدث عن الوحش القابع في الإنسان

غلاف كتاب ..مذكرات شيهم

هيثم حسين

يستقي الكونغولي آلان مابانكو في روايته "مذكرات شيهم" بعض الأساطير والخرافات والحكايات الأفريقية، يرصد من خلالها العلاقات بين البشر، والصراعات التي يخوضونها، والاقتتال المتجدد بينهم، وكيف أن أحدهم يعادي غيره ولا يتورع عن الفتك به لأبسط الأسباب.

يقدم مابانكو محاكمة لعالم البشر من وجهة نظر الحيوان، يختار شيهما ليكون بطل روايته، يحكي الشيهم لشجرة "باوباب" معمرة مغامراته بوصفه قرينا ضارا لرجل يقال له كيباندي كان يستعمله للتخلص من كل من لا تروقه أفعاله قبل أن يلقى نحبه على يدي طفلين توأمين، يحكي الشيهم دون توقف وهو لا يصدق أنه نجا من الموت.

يقسم مابانكو روايته -التي نشرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب بترجمة أبو بكر العيادي 2015- إلى خمسة فصول يحكي فيها الكيفية التي أوصلت بطله إلى ما هو عليه، والسبل التي قادته إلى مصيره.

ممثل ثانوي
يقر الراوي بأن البشر يقولون عنه "بهيمة متوحشة"، وكأنهم لا يحصون من هم أكثر بهيمية وأكثر وحشية من الحيوانات في جنسهم. ويضيف أنه في نظر البشر ليس سوى شيهم، وما داموا لا يثقون إلا في ما يرونه فقد يستخلصون أن لا شيء يميزه، وأنه ينتسب إلى فصيلة ثدييات مجهزة بأشواك طويلة، وقد يضيفون أنه لا يستطيع أن يعدو بسرعة كلب صيد، وأن الكسل يلزمه بألا يعيش بعيدا عن المكان الذي يقتات فيه.

يعتقد الشيهم أنه خلال تأملاته كان يحاول أن يفهم ما وراء كل فكرة وكل مفهوم، ويصرح بأنه يعرف أن التفكير أمر أساسي، وأنه الذي يلهم البشر الكآبة والشفقة والندم وحتى الخبث أو الطيبة

ويلفت الشيهم إلى أنه ليس للبشر ما يحسدهم عليه، وأنه يسخر من ذكائهم المزعوم، ويذكر أن قرينه كان يتصور طوال حياته أن الشيهم مدين له بشيء ما، وأنه لم يكن سوى ممثل ثانوي تافه يمكن تقرير مصيره كما يحلو له.

يعتقد الشيهم أنه خلال تأملاته كان يحاول أن يفهم ما وراء كل فكرة وكل مفهوم، ويصرح بأنه يعرف أن التفكير أمر أساسي، وأنه الذي يلهم البشر الكآبة والشفقة والندم وحتى الخبث أو الطيبة، وإذا كان سيده يطرد هذه المشاعر بحركة من ظاهر يده فإنها تنتابه بعد كل مهمة يقوم بها، فقد أحس في مرات عديدة بالدمع يسيل من عينيه لأنه حينما يستبد بك الحزن أو تأخذك الشفقة تحس بدرنة في مستوى القلب، وتصبح الأفكار مظلمة فتندم على أفعالك وسوء سلوكك.

يعتبر الحيوان الراوي أنه لم يكن سوى منفذ، فكان يخصص وجوده لدور القرين الذي يقوم به، ويغالب أفكاره السود ويعزي نفسه في همس داخلي بأن في الأرض أفعالا أكثر لؤما، يتنفس بعمق حينئذ، ويحاول أن يغمض عينيه، أن يقول لنفسه إن غدا هو يوم آخر، وسرعان ما توكل إليه مهمة جديدة فيتوجب عليه عندئذ أن يستعد ويغادر مخبأه، ويذهب قرب كوخ سيده أو ورشته ليسمع تعليماته.

كما يحكي عن كيفية تمكنه من القراءة والكتب، واستقائه المعرفة من سيدة المولع بالكتب، ويجد أنه إذا كان بعض الضحايا لا يطول بهم المقام في ذاكرته فذلك لأن المهمات التي كان يؤديها تعود إلى مدة تدربه الطويلة، وقد كان يعتبرها متماثلة إلى حد جعله ربما يخلط بعضها ببعض في سرده الذي قام به حول العمليات التي تبدو في نظره أهم ما في مسيرته كمثيل مضر حتى يصل إلى المهمة الأخطر أخيرا.

من هو الوحش؟
يعترف الشيهم للشجرة بأنه يمازجه ارتياح لأنه تمكن من إفشاء اعترافاته، ويذكر أنه ربما ثمة أشياء لم يقلها كاسمه مثلا، الاسم الذي أطلقه عليه سيده، كان يدعوه "نغومبا" ومعناه شيهم، وبما أنه لم يكن يحب هذا الاسم ذا الرنين الصوتي المزعج يتظاهر بأنه لم يسمعه حين يناديه به سيده وقرينه، مما يجعله يلح في النداء.

مابانكو يلفت إلى أنه لا يستطيع أن يكبح نفسه عن البوح بانسياقه مع مصير هذا الشيهم الغريب الذي هو في الآن نفسه جذاب ثرثار مضطرب وعليم بالطبع البشري

يثبت مابانكو ملحقا بالرواية، يربط من خلاله بينها وبين عمله السابق "قدح مكسور"، ويكون الملحق على شكل رسالة موجهة من السيد الحلزون العنيد منفذ الوصية الأدبية لـ"قدح مكسور"، وصاحب حانة "الديْن سافر" إلى منشورات "سوي" حول إرسال مخطوط "مذكرات شيهم" الذي يصفه بأنه نص لصديقه "قدح مكسور" بعد وفاته.

ينوه الراوي العليم بأنه في هذا النص يختفي "قدح مكسور" فلم يعد ساردا دائم الحضور ولا شخصية من شخصيات الحكاية. ويقول إنه يضع بين أيدينا هذه الوقائع التي جعل عنوانها "مذكرات شيهم" ويتمنى من كل قلبه ألا يغيروا عنوان الكتاب هذه المرة، ويعتقد أن العالم بالنسبة إليه ليس سوى رواية تقريبية لخرافة لن نفهمها أبدا ما دمنا لا نرى إلا التشخيص المادي للأشياء.

يلفت مابانكو إلى أنه لا يستطيع أن يكبح نفسه عن البوح بانسياقه مع مصير هذا الشيهم الغريب الذي هو في الآن نفسه جذاب ثرثار مضطرب عليم بالطبع البشري، يستعمل الاستطراد سلاحا حد النهاية ليصور الآدميين، وفي بعض الأحيان يلومنا بلا هوادة.

ويقول إنه منذ ذلك الوقت لم يعد ينظر إلى الحيوانات بالعيون نفسها. ويسأل: بعد، من منا الوحش فعلا، الإنسان أم الحيوان؟

يشار إلى أن ألان مابانكو كاتب كونغولي فرنسي، ولد عام ١٩٦٦ في برازافيل، ويقيم في الولايات المتحدة حيث يدرّس الأدب الفرنكفوني بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، كتب الشعر والقصة والرواية بعد النجاح الجماهيري الذي قوبلت به روايته الأولى "قدح مكسور"، وتوجت روايته "مذكرات شيهم" بجائزة رينودو الفرنسية لعام ٢٠٠٦.

المصدر : الجزيرة