"فندق مهرجان".. عصر الإسكندرية الذهبي

غلاف رواية روبير سوليه
 أنطوان جوكي-باريس

رغم استقرار الروائي المصري روبير سوليه في باريس منذ سنوات طويلة ما زال وطنه الأم يشكل مصدر إلهامه الحصري كما يتجلى ذلك في جميع رواياته، وآخرها "فندق مهرجان" التي صدرت حديثا عن دار "سوي" الباريسية، ويستعين فيها بأسطورة من صنع خياله للعودة إلى أبرز الأحداث التي شهدتها مصر خلال القرن الماضي.

أحداث الرواية تقع في مدينة ساحلية خيالية تدعى "ناري" وتفصلها عن العاصمة صحراء، مدينة تستحضر إلى أذهاننا بسرعة الإسكندرية بجغرافيتها وطبيعة سكانها الذين ينتمون إلى طوائف مذهبية عديدة تتعايش بسلام، لكن من دون أن تتجاوز علاقات أبنائها حسن الجوار.

وفعلا، لا إمكانية لزواج مختلط في هذه المدينة، وأي قصة حب بين رجل وامرأة من طائفتين مختلفتين مصيرها الفشل حين لا تقود إلى مأساة.

أما فندق "مهرجان" الذي يشكل المحور الرئيس للسرد في هذه الرواية فنعرف بسرعة أن أحد أبناء الطائفة اليهودية في المدينة شيده في مطلع القرن الماضي وحوله إلى قبلة أنظار سكان "ناري"، نظرا إلى ترفه والحفلات التي كانت تنظم فيه، واستقباله ألمع النجوم الدولية والمشاهير إلى جانب وجهاء المدينة وأثريائها.

أسرار الفندق
لكن هذا الفندق لن يلبث أن يشهد تحولات ستتعاقب على وقع الأحداث الكبرى التي ستعصف بمصر والمنطقة العربية، فبعد وفاة مؤسسه تنتقل ملكيته وإدارته إلى زوج ابنته الساحرة نيسا.

أحداث الرواية تقع في مدينة ساحلية خيالية تدعى "ناري" وتفصلها عن العاصمة صحراء، مدينة تستحضر إلى أذهاننا بسرعة الإسكندرية بجغرافيتها وطبيعة سكانها الذي ينتمون إلى طوائف مذهبية عديدة

ومع ولادة دولة إسرائيل ومغادرة جزء كبير من الطائفة اليهودية مصر يستلمه الأرمني مالوميان الذي كان يعمل محاسبا فيه إلى حين وقوع العدوان الثلاثي على قناة السويس ورحيل سكان المدينة الأجانب، ومع كل تغيير في إدارته تتراجع الخدمات فيه.

لكن قبل الوصول إلى هذه النقطة يشار إلى أن أبواب الفندق كانت مغلقة في وجه عائلة الراوي ومعظم أبناء المدينة.

فقط لوقا خال الراوي والشخصية الرئيسة في الرواية كان يدخله من الباب الخلفي من أجل تسليم المشروبات الغازية التي كان يصنعها، وهو ما كان يسمح له بالاطلاع على أسراره وقصصه التي كان يسردها على أفراد عائلته أثناء اجتماعها على الغداء كل نهار أحد.

وهذا الخال بالذات -الذي يتميز بشخصية طريفة تفسر محبة الراوي وسائر أفراد العائلة له- هو الذي سيدير الفندق بعد رحيل الأرمني مالوميان، لكن الأحداث ستطاله أيضا بأبشع طريقة فتنتقل إدارة الفندق إلى معاون محافظ المدينة قبل أن يتحول هذا الصرح في نهاية المطاف إلى مقر المحافظة وتلتهمه النيران أثناء الثورة الشعبية في 2011.

العصر الذهبي
ومنذ طفولته افتتن الراوي بهذا الفندق الفخم وقصصه، وحين عين خاله لوقا مديرا له تمكن أخيرا من دخوله عبر العمل فيه أثناء عطلة الصيف فعاش فيه قصة حب رقيقة ومستحيلة مثل خاله قبله، وشاهد انكفاء نجم هذا المكان الأسطوري خلال الستينيات بموازاة تراجع مناخ التسامح في المدينة ورحيل سكانها الأجانب وعدد كبير من أفراد أقلياتها الدينية.

قيمة هذه الرواية تكمن في تجردها من أي صبغة مأساوية رغم الأحداث الصغيرة والكبرى الأليمة التي يسردها سوليه فيها وتغطي قرنا من الزمن

وهذا ما سيسمح له بتسجيل ملاحظاته حول الحياة في هذا الفندق على شكل سلسلة من اللوحات أو المشاهد المتعاقبة والمنيرة، ورسم صور غنية بالألوان لنزلائه والعاملين فيه لعل أفضلها صورة لوقا الذي ستكتمل ملامح شخصيته تدريجيا مع تقدم عملية السرد قبل أن ينكشف لنا سر حياته ويشهد نهاية حزينة.

قيمة هذه الرواية تكمن أولا في تجردها من أي صبغة مأساوية رغم الأحداث الصغيرة والكبرى الأليمة التي يسردها سوليه فيها وتغطي قرنا من الزمن، كما تكمن أيضا في استعانة الكاتب بما عاشه واختبره في مصر لكتابتها، مما يفسر أصالة الانفعالات التي تشحن معظم صفحاتها، وذلك الحنين إلى فردوس مفقود لا تشوبه أي مرارة.

وفي هذا السياق، يحضر فندق "مهرجان" ومدينة "ناري" داخل الرواية كاستعارة للعصر الذهبي الذي عرفته الإسكندرية في القرن الماضي وشكلت خلاله حاضنة مثالية لأبناء طوائفها المذهبية وسكانها الأجانب الذين كانوا يعيشون فيها بسلام وسعادة وبحبوحة.

وكما في رواياته الخمس السابقة استعان سوليه لكتابة روايته الأخيرة بلغة أنيقة ورشيقة سمحت له بخلق ذلك التوتر السردي الذي يشد القارئ إلى نصها، وبتسيير طرافة كبيرة تمنح هذا النص نكهة فريدة.

المصدر : الجزيرة