تبدل صورة "البطل" في الفيلم المصري

أمير العمري - صورة "البطل الشعبي" في السينما المصرية لم تعد نموذجا يسعى إلى مكافحة الشر الاجتماعي، بل مجرد "بلطجي" أو شخص متماثل مع الفساد المنتشر

أمير العمري*

رغم العمر المديد للسينما في مصر، ورغم التأثير الكبير للأفلام "الشعبية" على عقلية الجمهور، واتساق الكثير من تلك الأفلام الشعبية التي كانت تنتج في العصر الذهبي للسينما المصرية مع الفكر الذي يستند إلى الأمثلة الشعبية والحكم الأخلاقية التي تتوارثها الأجيال، ومنها الكثير من المفاهيم الإيجابية التي تنبع من حكمة التاريخ، لا توجد دراسة واحدة حقيقية حتى الآن حول "الفيلم الشعبي"، أساليبه ومكوناته وأشكاله وأسباب قدرته على التأثير.

نجح الفيلم المصري في الماضي في خلق نوع من "الشيفرة" الخطابية بينه وبين المتفرج، هذه الشيفرة كانت وراء كل ما حققه البطل الشعبي على الشاشة من سحر وجاذبية وقدرة على التسلل إلى عقول وقلوب المشاهدين مهما تباينت أعمارهم.

وأصبحت تلك "الشيفرة" الخطابية هي جوهر ثقافة الشاشة، أي تلك الثقافة التي تقوم على بناء عالم آخر مواز للعالم الواقعي، له أشكاله وتضاريسه وتفاصيله المصنوعة صنعا من قلب خيال السينمائي، تُستلهم تارة من الحكايات الشعبية المتوارثة، وتارة أخرى تأخذ من الأحداث ما يناسبها وتقوم بإعادة صياغتها بحيث تطرق على الأوتار الحساسة لدى المشاهد.

استطاع فريد شوقي -مثلا- وحده أن يحفر له مكانا عميقا في ذاكرة أجيال من مشاهدي السينما نموذجا للبطل الشعبي الذي يشبه هؤلاء البسطاء من جمهور "الترسو" (أي المقاعد الأمامية الرخيصة) يتماثلون معه وينتظرون منه الخير دائما، وأن يقتص لهم من الأشرار الذين يمارسون استغلالهم مدفوعين بالجشع الذي يجعلهم لا يتورعون عن القتل في سبيل الحصول على ما يريدون.

وعندما كانت الظروف ترغم "البطل" الذي يمثله فريد شوقي على الانحراف أحيانا في طريق الشر، كان الجمهور الذي تربى على تلك "الشيفرة" الخطابية مع الفيلم الشعبي، يدرك بوعيه وخبرته أن بطله لا بد أنه سيعود في النهاية إلى طريق الخير، ويقتص لهم من الشرير ولو على الشاشة!

النهايات السعيدة
كثير من السينمائيين نجحوا في صنع بصماتهم الخاصة المميزة، واستخدموا حيلهم التي أصبحت معروفة لدى الجمهور لكنه ينتظرها ويستمتع بها، وقد تركوا تأثيرهم الكبير في المحيط السينمائي داخل مصر وخارجها.

ولعل أكبر ما حققته السينما المصرية من نجاح يكمن في قدرتها على ابتكار تلك الوسيلة الخطابية الخاصة، التي أصبحت وسيلة "مضمونة" للتخاطب بين السينمائيين والمشاهدين، أو بين الفيلم وسيطا والجمهور متلقيا.

تغير جمهور السينما منذ عصر الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات من القرن الماضي وبداية تدهور واضمحلال الطبقة الوسطى في مصر بعد أن كانت تمسك بتلابيب سوق العمل

تكونت تلك اللغة الخاصة عبر أعمال كثيرة صنعتها أجيال من المبدعين والسينمائيين تأثرت بالسينما في الشرق والغرب، لكنها نجحت في خلق "خيالها الخاص" الذي يستطيع المشاهد أن يتعرفه ويتمثله ويجد نفسه في داخله.

قد يدور هذا الخيال حول "الحكاية" أو رواية قصة تحتوي على الصراعات بقدر ما تتضمن من دروس وعبر أخلاقية واجتماعية، مع تقديم هذه "الرؤية" في إطار من التزويق والمشهيات والمشاهد المثيرة التي تشد المتفرج وتجذبه داخل "الحلم" الذي ينتهي عادة نهاية سعيدة. ورغم أن هذه النهاية السعيدة أصبحت معروفة سلفا، كان الجميع يتطلع إليها وينتظرها ويصفق لها.

كان الجمهور العام الذي يشتري تذاكر الدخول إلى دور العرض يتكون في معظمه من أبناء الطبقة الوسطى بشرائحها المختلفة، بحكم التوجه الفكري لصناع تلك الأفلام، والاستعداد الطبيعي لدى جمهور الطبقة الوسطى للتعامل مع ذلك "الخيال المصور المتحرك" كسلعة لا غنى عنها للتسلية، بل وكإطار للمعرفة بما يدور في المجتمع أيضا، ولو على مستوى المتخيل.

كان هذا الجمهور يشد معه جمهور الطبقات الدنيا الأكثر شعبية. وكانت تلك الشريحة الثانية من الجمهور تتماثل مع "أبطال" بعينهم من نجوم "الترسو"، دون أن يمنع هذا من تماثلهم أيضا مع نجوم من أبطال الطبقة الوسطى حتى في شريحتها العليا (شخصيات الأبطال التي قدمها يحيى شاهين وأنور وجدي وكمال الشناوي وأحمد مظهر وعماد حمدي ثم شكري سرحان وعمر الشريف وحسن يوسف، إلى جانب فريد شوقي ومحمود المليجي كمنوذجين بارزين للبطل ونقيض البطل anti-hero في الدراما المصرية).

تغير جمهور السينما منذ عصر الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات من القرن الماضي وبداية تدهور واضمحلال الطبقة الوسطى في مصر بعد أن كانت تمسك بتلابيب سوق العمل، فقد أصبح مفهوم النجاح يرتبط بمنطق آخر وبقيم أخرى سادت المجتمع: "الفهلوة" والغش والاحتيال واستغلال النفوذ والاعتماد على سوق بعينه له مواصفاته الخاصة (في التجارة عموما وفي السينما خصوصا) ورواج السياحة بما تجلبه من قيم أخرى وبما تولده من رغبة في التسابق من أجل إرضاء ذلك "الآخر" القادم من الخارج بمواصفات مختلفة وذوق مختلف.

سينما "البلطجة"
نتيجة لكل هذه العوامل، اتجهت السينما وجهة أخرى مختلفة أشد الاختلاف: فبعد أن كانت الطبقة الوسطى (وهي الشريحة الأساسية لجمهور السينما) تشعر بنوع من الثقة الاجتماعية، وتريد من خلال السينما معرفة ما يحدث في الواقع لكي تفهم ما يدور حولها، وفي الوقت نفسه قد ترحب أيضا بالهروب إلى الأفلام الرومانسية التي تُشعر الناس بأن المصاعب التي يواجهونها في الحياة عابرة أو مؤقتة، وأن رحلة الحياة لا شك أنها ستنتهي بتحقيق أحلامهم: في الحب والثروة والصعود الوظيفي والسيطرة على مقدراتهم بأنفسهم، أصبحت هذه الطبقة تكافح أساسا من أجل ألا تنهار بالكامل، بعد أن تجاوزتها المتغيرات السريعة منذ عصر الانفتاح وحتى اليوم.

لقد لحق ما لحق بالسينما خلال أكثر من ثلاثين عاما من تدنٍ في الرؤية والخيال وطبيعة المواضيع المطروحة وأشكال التعبير عنها، والتنكر حتى لفكرة "رواية قصة محكمة" بأدوات متقدمة تقنيا

كان من الطبيعي أن تنسحب تلك الطبقة تدريجيا عن التعامل مع السينما مع اختفاء سينما الماضي القريب واختفاء الكثير من الإبداعات والأشكال الأخرى، أو في أحسن الأحوال، تبدلها من حال إلى حال، وتحولها إلى نوع من العدمية المرتبطة بمجتمع العشوائيات، ليس فقط في السكن، بل في العمل أيضا، وهذا هو الأخطر.

لقد لحق ما لحق بالسينما خلال أكثر من ثلاثين عاما من تدنٍ في الرؤية والخيال وطبيعة المواضيع المطروحة وأشكال التعبير عنها، والتنكر حتى لفكرة "رواية قصة محكمة" بأدوات متقدمة تقنيا، مع ظهور نوع جديد من الغناء المرئي -إذا جاز التعبير- أو شيوع ثقافة "الفيديو كليب" وتفكك المسرح وتخليه عن دوره التاريخي، وشيوع الظاهرة الاحتفالية في الثقافة عموما، والفنون بوجه خاص، على حساب الإبداع والتأصيل الفكري والنقد، والانتشار الهائل للمسلسلات التلفزيونية التي يمكنها إبقاء المشاهد لأيام وليال أمام الشاشة الصغيرة، يترقب وينتظر ويتلهف على مصائر شخصيات معظمها كرتونية.

صحيح أن هناك أفلاما يحاول صناعها مقاربة الواقع، والتعبير عن رؤى جمالية جديدة، لكن هذه الأفلام لا تزال عاجزة عن الوصول إلى الجمهور العريض بسبب غياب العنصر الأهم الذي تغير بالكامل، أي صورة "البطل الشعبي" الذي لم يعد نموذجا يسعى إلى مكافحة الشر الاجتماعي، بل مجرد "بلطجي" أو شخص متماثل مع الفساد المنتشر. وهو موضوع يستحق التأمل وحده.

_______

* كاتب وناقد سينمائي

المصدر : الجزيرة