"منصب شاغر".. المجتمع تحت عدسة جي كي رولينغ

تصميم غلاف عن رواية "منصب شاغر" للبريطانية جي كي رولينغ..
جي كي رولينغ كتبت روايتها للكبار بعد نجاحها المدوي في سلسلة "هاري بوتر" (الجزيرة)

هيثم حسين

تنسج الكاتبة البريطانية جي كي رولينغ في روايتها "منصب شاغر" سلسلة من الحكايات التي تدور في فلك الذات والآخر، حيث العلاقات المتوترة بين الناس، وداخل الأسرة الواحدة.

وتلتقط صاحبة سلسلة "هاري بوتر" في روايتها شبكة من التناقضات السلوكية والاجتماعية التي تنعكس بدورها على جيل الأطفال الذي يجد نفسه بين القيل والقال، رغم ما يتم تكراره من مقولات الحرص على الآخر وعدم إيذائه معنويا أو ماديا، لكن الاغتياب المتفاقم يكون نوعا من الاغتيال المعنوي على هامش الموت الطبيعي.

وتمهد رولينغ لكل فصل من روايتها -نشرتها دار نوفل بترجمة دانيال صالح- بمقطع صغير من كتاب «إدارة المجالس المحلية»، ويكون التمهيد الأول فاتحة لولوج دوائر من الاحتمالات الناشئة جراء حالة وفاة أحدهم، إذ يعتبر منصب ما شاغرا بشكل ظرفي حين يتغاضى أحد أعضاء المجلس البلدي عن إعلان قبوله المنصب ضمن المهل المحددة، أو عند تلقي رسالة استقالته، أو يوم وفاته.

بؤر ونوازع
وتشكل الحالة الثالثة المتمثلة بوفاة "باري" شرارة الرواية، إذ تبدأ الكاتبة بنسج الأحداث عبر رصدها وتصويرها سلسلة من ردود الأفعال المتتالية إزاء وفاته، وهو عضو فعال في مجلس بلدة باغفورد، والد لأربعة أطفال، ويمثل شريحة من الناس الذين ينحدرون من طبقتين اجتماعيتين متوسطة وفقيرة.

ترصد الكاتبة جي كي رولينغ جانبا من اللا مبالاة التي يتصف بها بعض الناس في كيل الاتهامات للآخرين دون وجود أي أدلة أو وثائق، مدفوعين بالضغينة والحسد

يتصدر نبأ وفاة باري اهتمام البلدة التي يتناقل أبناؤها الخبر في ما بينهم، بحيث أصبح مثار سجال تالٍ، لما تسبب به من تخمينات وظنون وتكهنات حول شخصيته من قبل البعض، ولا سيما أولئك الذين سعوا إلى الطعن في سمعته كعضو في مجلس البلدة، ونسبة بعض التجاوزات إليه، واتهامهم المبطن أو المعلن له بتلقي رشى من بعض الشركات والناس لتمرير بعض الأمور والمعاملات.

وتصور رولينغ انقسام الناس حين تلقي أي خبر، وطريقة تعاطيهم المتباينة معه، وكيف أن التعاطي يكون منطلقا من باب الإسقاط والتخمين والتحليل بعيدا عن الواقعية المفترضة.

كما ترصد جانبا من اللا مبالاة التي يتصف بها بعض الناس حين كيل الاتهامات للآخرين دون وجود أي أدلة أو وثائق، مدفوعين بالضغينة والحسد، فتراهم يطعنون في سمعة الغائب ويشهّرون به، بحيث يضعونه مركزا للشرور والفظاعات المتخيلة، مخففين بذلك من مسؤوليتهم تجاه فشلهم الشخصي أو المهني.

ويثير الخبر نوازع الشر في نفوس البعض، ولا سيما لدى أولئك الطامحين في شغل منصبه الشاغر كعضو مجلس بلدي، وما أعقب ذلك من اصطفافات وتناحرات للظفر بالمقعد الشاغر وشغله وتقوية النفوذ والتهيئة للمراحل التالية المنشودة.

تعتمد رولينغ طريقة البؤر المتناسلة من بعضها، حدث بؤري يستدعي أحداثا متشظية على هامشه، تغدو بحد ذاتها بؤرا لأحداث تالية، كأنها تكتب ألف ليلة وليلة في بلدة صغيرة في الريف البريطاني الشاسع. وفاة باري هي بؤرة الرواية، وهي في الوقت نفسه كالقنبلة الاجتماعية التي تقوم بتظهير صور كثيرة من دواخل بيوت المدينة بالتوازي مع دواخل أبنائها، سواء أولئك الذين كانت تربطهم علاقة ما، اجتماعية، عائلية، مهنية مع المُتوفى، ودورهم في تبديد الشكوك أو الغموض حول ما يساق تاليا، وما يبدو أنه تصفية حسابات في غير أوانه.

وتقسّم رولينغ روايتها إلى سبعة أجزاء، يتخللها فصل بعنوان الأيام الخوالي، يلي الجزء الأول، ولا يدخل في ترتيب الأجزاء رغم أنه يشكل جزءا بحد ذاته، وفيه تعود الكاتبة إلى سيرة الطفولة والصبا لشخصية بطلها الحاضر الغائب باري، وحياته في حي الحقول الذي كان ينظر إليه من قبل سكان البلدة الأصليين بأنه أدنى مرتبة، لأنه يحوي خليطا بشريا وافدا إلى البلدة.

تفتت أسري
تحكي رولينغ كيف أن الموت يكون للبعض فرصة للتفكير بتغيير الوضع الوظيفي دون الاهتمام بالآخر ومصيبته، وتستنكر تلك الطريقة الآلية في الحكم على الآخر، حيث يكون الشغور الظرفي لمقعد المجلس البلدي هو كل ما يجول في بال البعض، إذ لا يكون في نظرهم مجرد مقعد فارغ بل قبعة ساحر تزخر بالاحتمالات والإمكانات، أو كأنها طاقة سحرية تكفل لصاحبها الثراء والشهرة، وكأن الثروات تمطر بدون أن تجد من يتلقفها.

تشير الرواية إلى حالة من التفتت الأسري تعيشها بعض الأسر التي ترى في مآسي الآخرين وهمومهم أمورا للتسلية والترويح، بحيث تغطي بذلك على خيباتها وانتكاساتها

وترمز رولينغ إلى حالة من التفتت الأسري تعيشها بعض الأسر التي ترى في مآسي الآخرين وهمومهم ووقائع حياتهم أمورا للتسلية والترويح، بحيث تغطي بذلك على خيباتها وانتكاساتها وعدم قدرتها على لملمة شتاتها، كما ترمز إلى فقدان الموت هيبته ورهبته، واكتسابه أهمية لدى الآخرين فقط لما يفسحه من مجال لاحتكار الميت، وتعظيمه من منطلق تعظيم الذات التي تمت إليه بصلة، أو اتهامه للتقليل من شأن الآخرين الذين يشكلون جماعته، أو يدورون في مجاله الحيوي.

تحرص الكاتبة على التقاط المتغيرات الاجتماعية بين الأمس واليوم، بين جيل الأبناء وجيل الآباء والأجداد، وذلك بالتزامن مع التغيرات السريعة التي تجتاح البلدة، وتفرض أنماطا مستجدة من السلوك على الناس. وتشير إلى أن هناك من لا يزال يحافظ على عاداته الاجتماعية ويتحدى اجتياح التغيير لحياته وطقوسه، فيبدو غريبا عن محيطه، وربما يوصف من قبل البعض بالغموض إن لم يكن بشيء من الجنون.

وتبدو رولينغ متأثرة بالكتابة السينمائية، فتراها تكثر من الوصف، سواء وصف الشخصيات أو وصف الأماكن أو وصف الحالات والمواقف المختلفة الكثيرة التي تحضر في عدة سياقات، إضافة إلى اعتمادها على الحوارات كتقنية رئيسة من تقنيات الكتابة الروائية، وكأنها بذلك تهيئ الرواية للإنتاج السينمائي، أو تكتب سيناريو فيلم لاحق مقتبس منها، ولا سيما أنها خبيرة في هذا المجال ولها تجارب ناجحة في "هاري بوتر".

يذكر أن «منصب شاغر» هي رواية رولينغ الأولى الموجهة للكبار بعد نشرها سلسلة روايات «هاري بوتر» التي تحولت إلى سلسلة أفلام سينمائية حظيت بكثير من المتابعة والجماهيرية والنجاح.

المصدر : الجزيرة