السودان يودع (محمدية) ساحر الكمان

محمدية
عازف الكمان السوداني الشهير (محمدية) غاب وبقيت ألحانه خالدة في ساحة الغناء بالسودان (الجزيرة)

محمد نجيب محمد علي-الخرطوم

شيعت أم درمان الأربعاء العازف الأشهر في تاريخ الغناء السوداني الحديث محمد عبد الله محمد أبكر الشهير بـ(محمدية) الذي ولد عام 1940 بمدينة بورتسودان.
 
ويعد محمدية أحد أبرز عازفي آلة الكمان على مدى أكثر من نصف قرن ظهرت فيه تحولات كبيرة على مستوى الأوركسترا الموسيقية من حيث عدد العازفين وتوزيع الآلات.

وللراحل بصمته الواضحة في العزف على آلة الكمان، فضلا عن إتقانه للعزف على عدد من الآلات الموسيقية الأخرى، مما جعله قائدا لكثير من الفرق الموسيقية مع وجود عازفين كبار لنبوغه الكبير في العزف على الآلة، ومنحه ذلك شهرة في سن صغيرة لم تتوفر لعازف من قبله.

وانعكست هذه العبقرية الفذة على مجهوده الكبير في تطوير الفرقة الموسيقية والاهتمام بها، ومحاولته لسنوات عديدة تحويل فرقة أوركسترا الإذاعة السودانية إلى فرقة مكتملة.

‪‬ من تشييع أيقونة عزف الكمان في السودان محمدية في أم درمان(الجزيرة)
‪‬ من تشييع أيقونة عزف الكمان في السودان محمدية في أم درمان(الجزيرة)

نبوغ مبكر
شهرة الموسيقار محمدية بعد ظهور نبوغه جعلت كثيرا من فناني الصف الأول يسعون إلى ضمه إلى فرقهم الخاصة، ومما يذكر هنا أن الفنانة السودانية الراحلة عائشة موسي الشهيرة بـ(عائشة الفلاتية) رفضت في خمسينيات القرن الماضي أن يعزف محمدية في فرقتها لصغر سنه، إذ لم يتجاوز عمره آنذاك السابعة عشرة.

وكان محمدية قد اشتهر في البداية كلاعب كرة قدم، ولعبت الصدفة دورا في تغيير مساره من "الكَفَر" (كرة القدم) للوتر (الموسيقى) حينما أهداه لاعب فريق حي العرب بورتسودان المشهور مدني محمد طاهر آلة كمان.

هذا الكمان غير مسار حياته، وبرع فيه، واشتهر في بورتسودان عازفا ماهرا له. وفي نهاية الخمسينيات عرف محمدية بالخرطوم عازف كمان واعدا.

وكانت المحطة الثانية في حياته التقاءه بالعازف الإيطالي (إيزو مايسترلي) بالخرطوم، الذي يعود له الفضل في فتح مدرسة للتدريب على الكمان باتحاد الفنانين في مطلع الستينيات. وتمكن محمدية من تعلم النوتة الموسيقية وتكنيك عزف الكمنجة على يد عازف الكمان مايسترلي.

كان محمدية معروفا بسرعة حفظ الألحان، خصوصا أن الأسلوب المتعارف عليه في تلك الفترة هو العزف السماعي، وابتعث محمدية وزارة الثقافة السودانية في السبعينيات إلى معهد الموسيقى الشرقية بالقاهرة لثلاث سنوات.

كما درس آلة القانون والعود والغيتار بمجهوده الخاص، وكان يجيد العزف على كل هذه الآلات ولكنه آثر العزف على الكمان لعشقه له، وبعد عودته من القاهرة التحق بمعهد الموسيقى والمسرح وتخرج في قسم الموسيقى والدراما.

ويعد محمدية أحد أعمدة الأوركسترا السودانية بالإذاعة والتلفزيون، والأكثر مشاركة وتوثيقا من العازفين في الحفلات والاحتفالات، وتمتلك مكتبة الإذاعة والتلفزيون مئات الأغنيات التي شارك فيها مع مختلف أجيال الغناء السوداني بدءا من عثمان حسين حتى الواعدة أفراح عصام.

وكان محمدية قد صرح في لقاءات عديدة بحلمه في تكوين فرقة سيمفونية سودانية بمواصفات عالمية، كما كانت له مشاركات عديدة في مهرجانات عربية وأفريقية، وشارك بالعزف مع الفرقة الماسية بقيادة الموسيقار الراحل أحمد فؤاد حسن بالقاهرة خلف العندليب الراحل عبد الحليم حافظ وكثير من الفنانين والفنانات العرب إبان دراسته للموسيقى هناك.

أنس العاقب يتذكر كيف رعاه محمدية في صباه كصوت واعد (الجزيرة)
أنس العاقب يتذكر كيف رعاه محمدية في صباه كصوت واعد (الجزيرة)

تاريخ حافل
يقول الدكتور الموسيقار أنس العاقب إن موهبة الراحل محمدية ظهرت في جمعه بين الخماسي والسباعي والشرقي، وهو الوحيد الذي كان يجيد عزف الأنظمة النغمية الثلاثة، وكان يساهم في وضع الشكل النهائي لأغلب الأغنيات ولزماتها لأجيال مختلفة من الفنانين بمشاركته في كثير من ورش البروفات.

ويضيف العاقب أنه في إحدى زياراته وجده يعزف في كونشرتو (الكمان) لبيتهوفن وفوجئ بحرفيته العالية في عزفه، وأشار أنس إلى أنه حين حضر للخرطوم عام 1966 ساعده محمدية كصوت واعد جديد وتولاه بالرعاية والعناية.

ويذهب الموسيقار الدكتور عبد القادر سالم رئيس اتحاد المهن الموسيقية السابق إلى أن الراحل عزف مع كل أجيال الفنانين السودانيين واستمر عازفا لمدة تجاوزت خمسين عاما.

وأضاف سالم أن محمدية قد أسس فرقة (النجوم) التي كانت تصاحب الفنانين بالعزف على مدى عشر سنوات، وساهم في بروز الكثير من الفرق الموسيقية ومنها فرقة (البعد الخامس). وقال للجزيرة نت إن الراحل محمدية كان يتدرب يوميا على (الكمنجة) لثلاث ساعات.

بينما أكد الدكتور الموسيقار الفاتح حسين أن الراحل من الموسيقيين الذين صقلوا موهبتهم بالدراسة في زمن كانت فيه دراسة الموسيقى نوعا من الترف، كما كان متميزا بعزف آلة الكمان، وتميزه هذا جعله يجيد العزف المنفرد (الصولو) وهو يظهر المهارة والتكنيك العالي للعازف.

ويضيف، أنه كان لمحمدية تجارب ثرة مع الفنانين الملحنين في تنفيذ ألحانهم وأحيانا يدخل جملا لحنية كاملة في العمل.

ويقول الدكتور الموسيقار يوسف حسن صديق للجزيرة نت إن محمدية له نكهة خاصة وأسلوب سوداني، وهو قد بدأ من الصفر وتعلم الإنجليزية والفرنسية بمجهوده الخاص، وكان عضوا في لجان الألحان والأصوات، ولم يكن يميل للتأليف الخاص، وكانت له مقطوعة واحدة مسجلة بالإذاعة السودانية.

وأضاف صديق أن محمدية قد لعب دورا في الإضافة لكثير من الأغنيات السودانية مما أضفى عليها طابعا سودانيا بحتا، ميزها عن مثيلاتها من الأغاني العربية.

المصدر : الجزيرة