النقد السياسي ومستقبل الفيلم المصري

أمير العمري

أمير العمري*

أخيرا قرر الإعلامي المصري الساخر باسم يوسف -مقدم برنامج "البرنامج"- وقف برنامجه تماما بعد أن ظل ينتقل من قناة فضائية إلى أخرى، يلقى من الإعجاب بقدر ما يلقى من السخط، خاصة لدى دوائر وشخصيات معينة قريبة من السلطة في مصر. وقد وصل أمر البرنامج أكثر من مرة إلى تحقيقات واستجوابات أمام النائب العام بدعوى التحريض والإهانة والسب والقذف والتشكيك، وما يسمى "إهانة" الجيش أو "قيم المجتمع".

إعلان وقف البرنامج نهائيا بعد ضغوط وصلت -حسب ما تسرب- إلى تدخل مباشر من جانب خادم الحرمين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وهو مؤشر خطير على مرحلة قادمة من المؤكد أنها ستشهد تضييقا لم تعرفه مصر منذ الستينيات الماضية على حرية الرأي والنقد والتعبير، سواء عبر أجهزة الإعلام أو السينما أو المسرح أو الأدب وغيرها. والجديد أن التضييق الرسمي سيأتي استنادا إلى حملات مقصودة من جانب "قطاع ما" في المجتمع يمارس الضغوط بالوكالة بدعوى أن الوضع الحالي لا يتحمل النقد.

السينما تحديدا ستنعكس عليها سياسة التضييق بدرجة ربما أشد مما سيلحق بغيرها، وهو ما نتوقع أن يدفع صناع الأفلام للعودة مجددا إلى استخدام أشكال من "التعبير المجازي" من خلال الإشارات والرموز على نحو ما كان شائعا في الستينيات إبان العهد الناصري.

"ثرثرة فوق النيل"، عن رواية نجيب محفوظ، يقدم صورة رمزية للمجتمع الذي أفضى إلى هزيمة 1967، وتحديدا تلك "الطبقة الجديدة" التي نسيت دورها الحقيقي، وغرقت في ضباب المخدرات غافلة عن الكارثة التي توشك أن تقع

وكانت الرقابة على الفنون أقل تشددا خلال العشرين عاما الأخيرة من عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، ليس لأن النظام كان أكثر انفتاحا في مجال الحريات، بل لأن التصور الرسمي كان يرى أن "التنفيس" في هذا المجال وترك هامش من الحرية للتعبير عن المكبوت السياسي، سيضمن عدم انفجار "المكبوت" الاجتماعي الاقتصادي.

ولعل أشهر أفلام الرمز السياسي في حقبة الستينيات هو فيلم "شيء من الخوف"، عن قصة ثروت أباظة وإخراج حسين كمال وبطولة شادية ومحمود مرسي، الذي كان يجسد شخصية طاغية مستبدة، تسيطر على قرية ما بالعنف والقوة، ويفرض الإتاوات على سكانها، ويتزوج غصبا من فتاة ترفضه وتتحدى نفوذه، مما يؤدي إلى اعتراض الشيخ الصالح ثم تحريضه الأهالي على الثورة ضد الطاغية.

وتعرض الفيلم للمنع في البداية لأن السلطات رأت أن "عتريس" المستبد ما هو إلا رمز لجمال عبد الناصر نفسه، وأن عصابته ترمز لجماعة "ضباط يوليو"، وأن "فؤادة" المرأة التي تتصدى لطغيان عتريس، رمز لمصر التي اغتصبت بالقوة. وظلت صيحة الشيخ محمود "زواج فؤادة من عتريس باطل" تتردد على كل لسان حتى اليوم، بعد أن تجاوزت واقع الفيلم لتصبح جزءا من المشهد السياسي المصري.

وكان "ثرثرة فوق النيل" عن رواية نجيب محفوظ، يقدم صورة رمزية للمجتمع الذي أفضى إلى هزيمة 1967، وتحديدا تلك "الطبقة الجديدة" التي نسيت دورها الحقيقي، وغرقت في ضباب المخدرات غافلة عن الكارثة التي توشك أن تقع.

ومع نهاية العهد الناصري، جاء السادات مبشرا -في البداية- بالمجتمع المفتوح، فظهرت أفلام تنتقد فترة حكم سلفه عبد الناصر، تحاول أن تفسر وقوع الهزيمة في 1967، دون أن تلجأ إلى الرمز. من هذه الأفلام "زائر الفجر" لممدوح شكري، الذي كان يوجه نقدا لأجهزة الأمن في قمع الحريات، وكان الفيلم يشير إلى أن مقتل بطلته الصحفية التي تحاول كشف الحقيقة للشعب، قد يكون "اغتيالا" وليس مجرد حادث عابر. 

وطرح يوسف شاهين في فيلم "العصفور" أيضا كيف أدى التضليل الإعلامي ونهب تجربة "القطاع العام" من داخلها، لحساب البيروقراطية ذات الخلفية العسكرية بالتعاون مع قيادات التنظيم السياسي الناصري (الاتحاد الاشتراكي) واستخدام المثقفين في التضليل، إلى وقوع الهزيمة.

يوسف شاهين طرح في فيلم "العصفور" كيف أدى التضليل الإعلامي ونهب تجربة "القطاع العام" من داخلها لحساب البيروقراطية ذات الخلفية العسكرية بالتعاون مع قيادات التنظيم السياسي الناصري (الاتحاد الاشتراكي) واستخدام المثقفين في التضليل، إلى وقوع الهزيمة

ولكن نظام السادات الذي كان يزعم أنه جاء لتحرير المجتمع من الخوف، لم يتحمل مثل هذه الأفلام وما ظهر بعدها مثل "التلاقي" لصبحي شفيق و"المذنبون" لسعيد مرزوق، وكلاهما من الأفلام التي تناولت تشريح مجتمع الكبت السياسي والفكري والاجتماعي، وكيف كان محتما بالتالي أن تقع الهزيمة. فقد منعت رقابة السادات هذه الأفلام، بل منعت أيضا فيلما من أهم ما ظهر من أفلام السبعينيات وهو "الظلال في الجانب الآخر" للمخرج الفلسطيني غالب شعث المقيم حتى الآن في القاهرة.

ولم تعرض هذه الأفلام إلا بعد قص واستبعاد الكثير من المشاهد واللقطات. وفي الحقبة التالية أي في الثمانينيات، وفي زمن حسني مبارك، منعت الرقابة العسكرية (أي التابعة للجيش) فيلم "البريء" لعاطف الطيب، الذي كان يصور كيف يتم خداع مجند ريفي بسيط في الجيش المصري، ويطلب منه التنكيل بعدد من المعتقلين السياسيين يقال له إنهم من الخونة والعملاء، إلى أن يكتشف أنهم أبرياء وأنهم يتعرضون للتنكيل فقط لكونهم معارضين سياسيين ينشدون حياة أفضل لمصر والمصريين، مما يجعله يثور ويوجه رصاص بندقيته نحو الضابط الذي خدعه.

كانت لقضية فيلم "البريء" أصداء كبيرة داخل مصر وخارجها، في وقت كان النظام يتظاهر بضمان الحريات العامة ومنها حرية التعبير، ولكن لم يكن ممكنا السماح بعرض الفيلم إلا بعد أن فرضت المؤسسة العسكرية تغيير نهايته تماما، وهو شبيه بما حدث في الستينيات مع فيلم "المتمردون" لتوفيق صالح الذي كان يوجه من خلال الرمز، نقدا لنظام عبد الناصر.

مناخ التوتر السائد حاليا باسم الدفاع عن "بقاء الدولة" لتبرير فرض إجراءات تحد من الحريات، يجعل من المؤكد أن تعود السينما -التي لا يمكنها تجاهل ما يحدث في الواقع- إلى تقاليد الستينيات في استخدام الرموز من أجل تمرير الرسالة. لكن في الوقت نفسه، ستشهد الساحة مزيدا من الأفلام ذات الصبغة الدعائية التي تروج لصورة الحاكم/البطل، والمجتمع الذي توحد كله في شخص البطل. وسننتظر ونرى.

____________
كاتب وناقد سينمائي

المصدر : الجزيرة