التّظهير والتّظليل

التّظهير والتّظليل- إبراهيم صموئيل
تصميم للكاتب

إبراهيم صموئيل

إن كان رحيل الكاتب الكولومبي غابرييل ماركيز (1927-2014) يبعث على الحزن في نفوس قرائه، ويثير الأسى في الأوساط الثقافية الغربية والعربية لخسارة علمٍ أبدع وجدّد وأثرى عالم الأدب وترك بصمته السردية المميزة، فإن حياته وما أحاط بها ورافقها، ثقافيا وإعلاميا، يستدعي التوقف مع ظاهرة قديمة متجددة، ويوجب النظر فيها.

ولعل السؤال المؤسّس للحديث عن الظاهرة: هل كل ما سُلِّط من أضواء باهرة على أعمال ماركيز، وما كُتب عنها وقيل فيها واستُشهد باقتباسات منها، وزامن حياة صاحبها وتحركاته وأسفاره وأحواله ولقاءاته عبر المرئي والمقروء والمسموع في العالم أجمع، هو فقط جراء فرادة أدبه في عصرنا، غير المسبوق (ولا المتبوع كما كُتب بعد رحيله!) والذي لم يكن على مثال؟!

هل كل ما سلط من أضواء باهرة على أعمال ماركيز، وما كتب عنها وقيل فيها وواكب حياة صاحبها وتحركاته وأسفاره وأحواله ولقاءاته، هو فقط جراء فرادة أدبه في عصرنا، غير المسبوق الذي لم يكن على مثال

إنْ كان الأمر كذلك فيجب أن نؤرّخ بظهور أعماله مرحلة فارقة في اتجاهات وتاريخ الثقافة والأدب: ما قبل ماركيز وما بعده، على غرار اكتشاف الجاذبية ودوران الأرض وغيرهما من اكتشافات شكّلت منعطفات كبرى وإضافات تعد علامة فاصلة في حياة البشرية!

أما إنْ كان الأمر ليس لما سبق، ولا وفق ما سبق، وإنما لدأب الآلة الإعلامية الضخمة بكل وسائلها -خصوصا في عصرنا- على اختيار نجومٍ، وتلميعها، وتسويقها، واجتياح جمهورها بها (على غرار تسونامي) بحيث لا تُردُّ ولا تُصدُّ، فيكون لزاما الإشارة إلى هذا، وهو مقصد المقال هنا.

كلنا نعرف أن أداة التظهير والتلميع، والتظليل والتعتيم هي بيد وسائل الإعلام، وهي إذ تُظهِّر هذا فليس من فراغ بالطبع، بل من إبداع أدبي أو فكري أو فني أو رياضي حقيقي، وإذ تُظلّل وتُعتِّم على ذاك فليس لانعدام الإبداع لديه، الأمر الذي طالما انتقده وشكا منه العديد جدا من النقاد والباحثين في غير حقل من حقول النشاط البشري.

لقد أحاط الإعلاميون والنقّاد الغربيون بماركيز كالسوار، وتقصّوا تفاصيل حياته الشخصية، وتلقطوا هواياته، واهتمّوا بأي نص يصدر عنه أو تصريح يدلي به على نحوٍ مبالغ به مما لم يتوفر لكاتب غيره بالحجم نفسه، وهو ما أفاد منه ماركيز بالطبع إفادة جمّة وإنْ لم يكن صانعه.

كما ساهم في الإحاطة والتظهير زعماء ورؤساء من دول أميركا الشمالية مرورا بأميركا الجنوبية وصولا إلى دول أوروبا!

وانكبّت دور النشر على طباعة قديمه وجديدة بملايين النسخ، وخُصّصت المركبات المصفّحة والحراسات الأمنية المشدّدة لغاية نقل أعماله من مكان إلى مكان، وحين بيعت النسخ الأولى من مذكّراته "عشت لأروي" عُزف النشيد الوطني في العاصمة بوغوتا وخطب الرئيس الكولومبي قائلا "عن طريق هذه المذكّرات تأكد وجود التاريخ الكولومبي في ذاكرة العالم"، وتناقلت وسائل الإعلام الخبر باعتباره حدثا عظيما!

هذا كله تردّدت أصداؤه، بلا شك، في وسائل إعلامنا وأوساط مثقفينا ونقّادنا ودور النشر لدينا وجمهور القراء العرب، وإنْ لم يعلن رؤساؤنا وزعماؤنا عن أمانيهم التوّاقة إلى فرصة تجمعهم بهذا المبدع الفريد!

والسؤال الضروري هنا: هل بين مستوى أعمال ماركيز -أدبيا إبداعيا حصرا- وأعمال كتاب العالم هذا البون الشاسع حتى تجتمع له كلّ هذه الأضواء وزخم هذا الاهتمام مما لم يجتمع لغيره؟ على الجواب يتوقف الكثير.

لنتذكر، في هذه المناسبة، كيف قيض لكاتبة عربية، زكّاها شاعر عربي معروف، من الضجة الإعلامية واهتمام الجمهور ما جعل أبواب المكتبات في غير عاصمة عربية تتخلّع للحصول على عمل لها! ومرة أخرى يُطرح السؤال: هل كان عملها ـ أدبيا إبداعيا حصرا ـ على هذا البون الشاسع في المستوى عمّا كانت عليه أعمال مبدعين عرب غيرها، حتى تحدث تلك الضجة كلها؟!

ما من "براءات اختراع" في الأدب والفن خصوصا. ما من إبداع يأتي من فراغ. ما من اتجاه أو لون أو مدرسة أو منحى وُلد من عدم. ما من رسمٍ أو كتابة أو لحن من دون جذور ومصادر

كُتب وقيل إن الفضل يعود إلى أدب ماركيز في ظهور تيار الواقعية السحرية في الكتابة الروائية والقصصية، وعلى الأخص جراء روايته: "مائة عام من العزلة" مما يوحي بأنه حاصل على "براءة اختراع" مسجلة باسمه تحديدا، في حين أنه ما من أدب إلا واستقى من أدب سابق عليه أو من جيله أو من مرويات شعبية أو من نصوص قديمة مثل "ألف ليلة وليلة" أو غيرها.

ما من "براءات اختراع" في الأدب والفن خصوصا. ما من إبداع يأتي من فراغ. ما من اتجاه أو لون أو مدرسة أو منحى وُلد من عدم. ما من رسمٍ أو كتابةٍ أو لحنٍ من دون جذور ومصادر, وهو ما يدفع بالمبدعين الكبار للاعتراف بفضل سابقيهم.

بلى، أبدع ماركيز في الرواية وجدّد وأثرى المشهد الأدبي، ولكن أدباء من أميركا اللاتينية أبدعوا أيضا, كما أبدع وجدّد وأثرى كذلك عدد كبير من كتّاب أوروبا وآسيا وأفريقيا، تماما كما أتحف الثقافة العربية الكثير من المبدعين العرب في المسرح والرواية والقصة والفن التشكيلي والموسيقى.

معنى ذلك إذن أنه ليس ثمة علَم واحد في سماء الإبداع، من أي نوع كان، والباقي في فلكه يسبحون، سوى أن الإعلام ملمع النجوم وصانع اتجاهات الرأي العام في ميدان السياسة يصنع الرأي العام واتجاهاته في ميادين الأدب أو الفن أو الرياضة أو عروض الأزياء, بل ويصنع الذائقة نفسها حتى ليخال صاحبها أنها منه وفيه!

المصدر : الجزيرة