محجوب شريف.. قصيدة أخيرة للسودان

الشاعر محجوب شريف
محجوب شريف كتب آخر قصائده للشعب السوداني قبل رحيله بأيام (الجزيرة)

محمد نجيب محمد علي- الخرطوم

يرحل "شاعر الشعب" محجوب شريف ممتلئا بحب أهل السودان الذين ذرفوا دموعا غزيرة على فقده الأربعاء الماضي، حيث خرجت الجموع من العاصمة المثلثة في جنازة الشاعر والإنسان، والكل فيها يعزي الكل في الشاعر الذي كتب قبل أيام من رحيله آخر قصائده للأرض والناس.

عبر أشعاره الوطنية بكلماتها البسيطة ارتبط بثنائية ثورية مع فنان السودان الأشهر محمد وردي الذي سبقه في الرحيل قبل عامين من الآن، ورغم ثنائيتهما الثورية فإن للأغنية العاطفية مكانها أيضا، حيث ملكت القلوب في سبعينيات القرن الماضي، خاصة رائعتهما "جميلة ومستحيلة".

يلتقط محجوب المفردة البسيطة الموحية من أفواه الناس وسجالاتهم اليومية ليعطيها من روحه وموهبته ما يحيلها إلى أنشودة يتغنى بها الجميع، وتحولت نصوصه العامية إلى حامل أكبر للهم السياسي.

‪جانب من جنازة الشاعر الراحل محجوب شريف في أمدرمان‬ (الجزيرة)
‪جانب من جنازة الشاعر الراحل محجوب شريف في أمدرمان‬ (الجزيرة)

الشعر والموقف
ولا يظهر الراحل على غير ما يكتب، وأشعاره منسجمة تماما مع موقفه السياسي، وهو ما أكسبه بامتياز لقب "شاعر الشعب"، وجاء اللقب أيضا كتكريم لشاعر تنقل في سجون الأنظمة 13 عاما في سبعينيات وتسعينيات القرن الماضي، ومن وراء القضبان كتب أول دواوينه "يا والدة يا مريم".

كانت الجزيرة نت آخر من تحدث مع الراحل محجوب شريف قبل رحيله بأيام قليلة، حيث استذكر -وهو على فراش المرض- أياما من الشعر والنضال ورحلة الحياة التي توقفت بعد أيام من اللقاء، لكن ما بقي هو الصيت الكبير لشخصية سودانية قحة لصيقة بالشعب وهمومه.

لا يهرع  الشاعر الراحل لكتابة ما تجود به قريحته من قصائد أو أبيات منها على الورق، كما معظم الشعراء، فذاكرته هي السجل الدائم والأمين لأشعاره وحافظته المتوقدة التي تبقى معه رفيقة وصديقة يستحضر منها الشعر كيفما أراد.

حين سرت إشاعة برحيل محجوب قبل فترة جاءت قصيدته التي رثى بها نفسه، ذاكرا فيها أن الموت الذي يخافه هو ما سمّاه موت الضمير وليس سواه، إذ يقول:

في محنة المرض كان الشعر خلاصا لمحجوب، إذ أصبح يكتب أكثر من قصيدة واحدة في اليوم، وكانت حصيلة أحد الأيام المتدفقة شعرا وحنينا وذكريات عشرين قصيدة

أقول دون رهبة، أقول دون زيف
أموت لا أخاف أين أو متي وكيف؟
أموت في سريري
زوجتي بنتاي
جيرتي عشيرتي
وأصدقائي
قطتي راكوبتي وزيري
معززا مكرما مهندما
بناصع البياض
موكب يحفني لمرقد أخير
أموت لا أخاف
كيفما يشاء لي مصيري
أموت لا أخاف
قدر ما أخاف
أن يموت لحظةً ضميري

وجع الأنفاس 
حين لفّ المرض حباله حول الشاعر الراحل لم يبد محجوب أي خوف أو علامات إحباط من عذابات الداء الذي أصاب رئتيه، كان يعرف أن ما أصابه لا علاج له، وحوّل المرض إلى مصدر إلهام للكثير من القصائد، ليقدم اعتذاره لقمصانه وأحذيته و"بناطيله" التي لزمت مكانها لأنه لم يعد يلبسها ولم تعد تمشي معه -كما كانت تفعل- في تلك الشوارع التي يعشقها.

في محنة المرض تلك كان الشعر خلاصا لمحجوب، إذ أصبح يكتب أكثر من قصيدة واحدة في اليوم، وكانت حصيلة أحد الأيام المتدفقة شعرا وحنينا وذكريات عشرين قصيدة ، ومع أن الأطباء كانوا يطالبونه بعدم الحديث حتى لا يرهق أنفاسه، لكنه كان يأبى كل ذلك لتعلو نبرات صوته وتشع محبة لكل من جاء يعوده كما كان مع الجزيرة نت حين زارته في المستشفى.

يقول محجوب إنه شاعر سوداني ينتمي للتعدد الثقافي والعرقي والديني، وهو يعتقد دائما أنه لا بد من وجود مسافة واضحة بين المبدع والسلطة -أية سلطة- حتي لا يكون المبدع بوقا لها، وتمنى الراحل  في حديثه للجزيرة نت أن يهال عليه التراب قبل أن يقول عنه أحد ذات يوم إنه كان انتهازيا، وقد تحقق له ما أراد.

قبل الرحيل بأيام كتب محجوب آخر قصائده "صحة وعافية للشعب السوداني"، كانت قصيدة وداع، وخاطب فيها محجوب "القاصي والداني"، وشكر فيها "الأرض الجابتني"

مايو ومحجوب
من منطلق فكري وأيديولوجي كان محجوب أول من بشّر بانقلاب مايو/آيار في عام 1969، وكانت أغنية "في حكاياتنا مايو" أول أغنية كتبت وتغنى بها الراحل محمد وردي، وتبعتها أغنية "يا فارسنا وحارسنا"، وغنّاها أيضا وردي، كما أصدر محجوب في بداية عام 1970 ديوانه "أغنيات لمايو"، وقبل أن يكمل انقلاب مايو عامه الأول كان محجوب من أكبر أعدائه، فقضى سني شبابه في سجون جعفر النميري.

يقول محجوب "كنت مفتونا بالتغيير الذي حدث في أول مايو/آيار مثل كل السودانيين، ولم أكن حينها ملما بالديمقراطية وعارفا للحرية، ولكن قبل أن تكمل عامها كان لي موقف واضح منها، أحرقت ديواني "أغنيات لمايو"، واستدنت حتى أدفع للناشر كل خساراته، حتى لا يطبع الديوان مرة أخرى".

حملت الأحلام والطموحات الكبيرة محجوب في ذروة شبابه إلى الانحياز لانقلاب مايو، لم يكن الشاعر الشاب قد اشتد عوده بعد سياسيا وأدبيا، يذكر أول أغنية كتبها في أوائل عام 1967، وكانت هي من نصيب الفنان ميرغني سكر، وهو فنان ربما لم يجد حظه من الشهرة، يقول محجوب في كلماتها:

العمر مشوار قصير
إنت ليه خايف تسيرو
ولسه في عمرك صغير
وزيك يشتاق لي مصيرو

بين تلك الحقبة جرت مياه كثيرة تحت الجسور، وحصلت تحولات سياسية كبيرة في السودان، بما فيها الحراك الذي تشهده السودان حاليا، وفي سؤال عن توقعه لربيع عربي في السودان، يقول الراحل "السودان ليس فيه ربيع، وأنا أتوقع "الهبباي" في السودان". (الهبباي ريح عنيفة في شرق السودان خاصة).

قبل الرحيل بأيام كتب محجوب آخر قصائده "صحة وعافية للشعب السوداني"، كانت قصيدة وداع خاطب فيها محجوب "القاصي والداني"، وشكر فيها "الأرض الجابتني"، تلك الأرض التي منحت شاعرها أيضا فيضا من مشاعر الحب والامتنان على الأقل يوم رحيله.

المصدر : الجزيرة