فيلم "كف القمر" هل أفلس خالد يوسف؟!

مقال الكاتب أمير العمري لصفحة الثقافة
undefined
أمير العمري
 
شاهدت أخيرا فيلم "كف القمر" آخر فيلم أخرجه خالد يوسف قبل أن يصبح جزءا من الأحداث السياسية الصاخبة التي تشهدها مصر منذ نحو ثلاث سنوات.

ولم يكن هذا الفيلم تحديدا قد حظي باهتمام نقدي أو حتى جماهيري مشابه لأفلام سابقة للمخرج نفسه، ومرجع ذلك أن عروضه العامة في مصر بدأت بعد أحداث انتفاضة 25 يناير مباشرة التي أدت إلى إغلاق كثير من دور السينما واضطراب عروض البعض الآخر في تلك الفترة بسبب تدهور الأحوال الأمنية في الشارع.

الفيلم من تأليف ناصر عبد الرحمن (كتب القصة والسيناريو والحوار) الذي سبق أن اشترك في أكثر من فيلم مع خالد يوسف، لعل أشهرها "حين ميسرة". أما في هذا الفيلم فيتراجع خالد يوسف إلى الوراء، ويترك العنان لطغيان الرمز السياسي الذي يولع به كثيرا بحيث يصل أحيانا إلى حد الصراخ المباشر من خلال الحوار، وحشو الكثير من المبالغات الدرامية التي تجعل من معظم أفلامه "بيانات سياسية احتجاجية مباشرة وضعيفة" لا تشهد على الظاهرة الاجتماعية المتدهورة بقدر ما تصبح جزءا منها!

مشكلة خالد يوسف أنه لا يريد أن يكتفي بدور السينمائي الذي يقدم رؤية فنية للواقع، بل يريد أن يقوم بدور الخطيب والداعية السياسي أو المصلح الاجتماعي ولو بوضع مجموعة من "الافتراضات الدرامية" التي تقارب بين الفيلم والواقع بطريقة رديئة تذكرنا بميلودرامات سينما أثرياء الحرب في الأربعينيات.

من الواضح أن خالد يوسف لا يرغب في الخروج من دائرة اهتمامات شاهين السينمائية القديمة، أي بناء الشخصيات في أفلام مثل "العصفور" و"عودة الابن الضال" وغيرهما، دون أن يملك أبدا القدرة على الوصول إلى تلك الشاعرية الغنائية في أي منهما

الشخصية والرمز
في هذا الفيلم.. امرأة موشكة على الموت عجوز من الصعيد المصري مرتبطة بالأرض، فقيرة لحد الجفاف، بيتها يتعرض لنهب اللصوص وهدمه فوق رأسها، غير أنها ترفض أن تغادره إلى المدينة حيث يعمل أولادها الخمسة الذين أصبحوا الآن رجالا بعدما تولت هي رعايتهم وتربيتهم بعد وفاة والدهم. والمرأة اسمها "قمر" والكف إشارة إلى أبنائها الخمسة الذين لا يجب- في تصورها- أن ينفصلوا أبدا تماما مثل كف اليد.

الحبكة إذن تدور حول فكرة الأم التي تسعى طول الوقت إلى تحقيق الترابط بين الأبناء الخمسة، في حين يسير كبيرهم (يؤدي دوره خالد صالح) وراء ملذاته تارة، أو ينغمس في تجارة غير قانونية تارة أخرى بهدف جمع المال لكي يبني عمارة حديثة بالقاهرة، بينما يتجه ابن آخر إلى توزيع المخدرات، ويرتبط ثالث براقصة يشاركها الرقص في حفلات الزفاف، يريد أيضا أن يتزوجها رغم سوء سمعتها، وينتهي الجميع الى الوقوع في مشاكل منها ما يفضي الى السجن أو إلى الانفصال عن المرأة التي يحبها، وكل ما يقع لهم من مصائب يتسبب فيها شقيقهم الأكبر.

لكن الشقيق الأكبر الآن يبحث عنهم واحدا واحدا، يريد أن يجمعهم معا للذهاب لرؤية الأم التي أصبحت مشرفة على الموت بعد أن تدهورت حالتها الصحية، وأجريت لها عملية جراحية لبتر كف يدها بعد إصابته بالغرغرينا (دلالة على تفكك الأبناء -الخمسة- الذين يجتمعون في الكف!!).

دعك من أن العملية الجراحية الخطيرة تجري في غرفة عادية بالمستشفى ومن دون تخدير كلي كما يلزم في مثل هذه العمليات، ودعك من أننا نشاهد لأكثر من ساعة ونصف كيف يرفض الاخوة الاستجابة لشقيقهم الأكبر، وكيف أنه كان سبب تعاستهم وتورطهم في أعمال شائنة من أجل أن يستمر هو في الصعود الاجتماعي، فلا بأس من سياق درامي هكذا يدور حول فكرة الوفاء والارتباط العائلي القديم الذي أصبح مفككا الآن مع طغيان النزعة الأنانية ورغبة كل واحد في تحقيق الصعود بأي طريقة.

ولكن إذا كانت هذه الفكرة تبدو جيدة من الناحية النظرية، فالمشكلة الحقيقية تكمن هنا في تجسيدها سينمائيا.

يتأرجح السيناريو بين البعدين الواقعي والرمزي، فالأم -وهي شخصية محورية- ترتبط بالأرض والبلدة (دلالة على عمق صلتها بأصولها)، لكنها في الوقت نفسه رمز لكيان أكبر قد يكون مصر نفسها التي يتخلى عنها أبناؤها وقت حاجتها إليهم، وعندما يستفيقون أخيرا ويعودون إليها تكون قد ماتت.

ولكن الفيلم رغم نهايته الحزينة يحتفظ لمشاهديه بالأمل حينما يجعل الأبناء يعودون مجددا إلى التفاهم والانسجام الذي كان في الماضي، وكأن موت الأم ينبههم إلى ما كانوا غافلين عنه، ويعيدهم إلى طريق الصواب. وكلها بالطبع أفكار مكتوبة ومصممة مسبقا لخدمة هدف سياسي أيديولوجي يخدم "الرسالة" التي حلت محل تلك "الموعظة" الأخلاقية التي كانت سائدة في أفلام السينما المصرية في الخمسينيات مثلا.

ولعل أشهرها فيلم "لك يوم يا ظالم" لصلاح أبو سيف، مع الفارق الكبير بالطبع بين الفيلمين. إنها نفس الأفكار العتيقة التي تتردد كثيرا في الميلودرامات المصرية المسرحية من الخمسينيات حتى اليوم، خاصة أننا لا نشعر بشفافية تلك الشخصية الرمزية ولا يمكننا التعاطف معها، فهي تظل رغم محوريتها هامشية ومهملة.

يفتقد سيناريو فيلم "كف القمر"، التركيز على الشخصيات الرئيسية في تناقضاتها، ويلجأ إلى عشرات الشخصيات الأخرى، الثانوية، التي تشتت ذهن المتفرج وتنحرف بالفيلم عن مساره الطبيعي

تأثير شاهين
خالد يوسف متأثر كثيرا بأفلام يوسف شاهين، ومن الواضح أنه لا يرغب في الخروج من دائرة اهتمامات شاهين السينمائية القديمة، أي بناء الشخصيات في أفلام مثل "العصفور" و"عودة الابن الضال" وغيرهما، دون أن يملك أبدا القدرة على الوصول إلى تلك الشاعرية الغنائية في أي منهما.

كان شاهين ينتقل بين الشخصيات في أبعادها الواقعية تارة، والرمزية تارة أخرى ببراعة ورهافة حس، ودون أن يقتحم عقل المشاهد اقتحاما، بل يترك مساحات مناسبة أمامه للتأمل والتفكير، وكان استخدامه محسوبا تماما للغناء والموسيقى.

وقد اعتمد شاهين في هذه الأفلام تحديدا على سيناريوهات جيدة، وكان يجيد تحريك الأحداث والتحكم في إيقاعها والسيطرة على الممثلين بشكل كامل، الأمر الذي يفتقده بوضوح خالد يوسف هنا. بل إن فكرة استخدام الشخصية التي ترمز إلى شيء ما في الواقع هي فكرة قديمة متهالكة لم تعد تغري صناع الدراما في العالم اليوم.

ولم يكن شكسبير مثلا وهو يكتب "الملك لير" يريد أن يرمز إلى حالة في الواقع، بقدر ما كان يبحث في أفكار فلسفية وإنسانية، تتجاوز كثيرا عالم السياسة المحدود، رغم ما تصوره مسرحيات شكسبير من صراعات سياسية.

يفتقد سيناريو فيلم "كف القمر" التركيز على الشخصيات الرئيسية في تناقضاتها، ويلجأ إلى عشرات الشخصيات الأخرى الثانوية التي تشتت ذهن المتفرج وتنحرف بالفيلم عن مساره الطبيعي، ومن ناحية شكل السرد ينتقل من الزمن الحاضر إلى الماضي لكي يطلعنا على ما كان من تجاوزات الأخ الأكبر في حق أشقائه ولكن بطريقة الشرح الآلي البليد المليء بالاستطرادات وتكرار الفكرة، مع الفشل في تقديم شيء جديد -دراميا- من وراء كل قصة، يمكن أن تثري الشخصية.

وتعاني أجزاء الماضي من الإطالة والحوارات التي لا نهاية لها، واللجوء أحيانا إلى استعراض العضلات "التقنية" بتحريك الكاميرا داخل ديكورات صناعية وطبيعية ذات تضاريس معقدة وصعبة اعتمادا على وجود مدير تصوير كبير مثل رمسيس مرزوق يمكنه التوصل إلى حلول جيدة في توفيرالضوء للمشهد.

ولكن هذه "العضلات" لم تنجح في انتشال الفيلم من الضعف الفني، فالانتقالات الى الماضي مربكة كثيرا لنا كمشاهدين، فأنت لا تعرف الفرق بين الماضي والحاضر، كما أن الملامح الخارجية للشخصيات لا تتطور بل إن الإضاءة لا تتباين كثيرا، وكيف يمكن أن تتباين وأنت تصور في نفس الديكور وتريد أن توحي بالواقعية، وليس من ضمن طموحك كمخرج أصلا أن تقدم رؤيتك أنت للواقع ولو من خلال ضوء مختلف أو ألوان مغايرة تستخدم لتوليد مشاعر ما أو تمنح الفيلم إحساسا دراميا معينا!

هناك سقوط واضح في تكرار الفكرة نفسها في أكثر من مشهد، مع تعمد تصوير بعض المشاهد المثيرة: تارة لجومانا مراد، وتارة أخرى لحورية فرغلي، لتعويض الفراغ الدرامي في الفيلم

مبالغات الأداء والصوت
يعيب الفيلم أيضا تلك المبالغات الواضحة في الأداء من جانب جميع الممثلين دون استثناء، بل إن هذا هو أضعف أفلام خالد يوسف من حيث السيطرة على أداء الممثلين، ومن أكثر أفلامه أيضا إساءة في اختياره للممثلين من البداية، فكيف يطلب منا أن نتقبل أداء وفاء عامر في دور الأم، وهي على كل هذا النحو من الرقة والتضاؤل والصوت الضعيف الذي لا يتمتع بأي قدرة على الإيحاء بقوة الشخصية، ناهيك عن ضعف قدرتها على التقمص، وعدم ملاءمتها الشكلية للدور وانفضاح الماكياج بشكل يدعو للرثاء.

وقد فرض المخرج على الفيلم أيضا هيثم أحمد زكي، ربما إعجابا بقرب ملامحه من ملامح أبيه الراحل أحمد زكي، دون أن يمتلك أي قدرة على الأداء أمام الكاميرا. بل إن أداء خالد صالح نفسه يبدو مضطربا في هذا الفيلم رغم قدراته التمثيلية العالية المعروفة، والسبب يعود إلى وجود كل هذه المجموعة الضعيفة الأداء من الممثلين من حوله.

النقطة الثالثة التي تعد بمثابة سقوط كارثي للفيلم تعود إلى ذلك الشريط الصوتي الذي يتناقض تماما مع الطابع العام للفيلم، ويساهم في إنتاج واحد من أسوأ أفلام الميلودراما الغليظة في السينما المصرية في السنوات الأخيرة.

هنا يتردد الغناء مرارا وتكرارا من دون أي مناسبة، وترتفع الموسيقى الصاخبة الحزينة دون توقف، ثم نعود إلى الأغاني كلما يتراءى للمخرج أن "يضغط" على موقف ما، أو يقول للمشاهد إنه قد آن الأوان لأن تفكر معنا في كل هذه المصائب وتحزن على ما آلت إليه مصائر البشر في بلدنا (أو بالأحرى، في فيلمنا!) في ابتزاز واضح لمشاعر المتفرج من خلال النواح الذي تسمعه على لسان مغنية ضعيفة تصرخ بدلا من أن تغني.

وهناك سقوط واضح في تكرار الفكرة نفسها في أكثر من مشهد، مع تعمد تصوير بعض المشاهد المثيرة: تارة لجومانا مراد، وتارة أخرى لحورية فرغلي، لتعويض الفراغ الدرامي في الفيلم.

بل إن الشخصيات النسائية في الفيلم لا تخرج عن دائرة "العهر" عموما، والانتهازية واستغلال الرجال، في حين يتحرك الرجال فقط بدافع الشهوة الجنسية والرغبة في جمع المال، وهو ما يجعل فيلم "كف القمر" الذي لا يحمل عنوانه الشاعري أي شيء منه، بعيدا عن مجال السينما الجادة الفنية، ونموذجا من أفلام السينما الاستهلاكية الهابطة.
_______________
ناقد سينمائي مصري

المصدر : الجزيرة