همودٌ ثقافي ثقيل

تصميم ثقافي للكاتب إبراهيم صموئيل

* إبراهيم صموئيل

ثمة خمول ثقافي عربي، وكسل، وحالة من "فقدان الشهية" يعبّر عنها، ويشكو منها، العديد من الكتّاب والمثقفين في دول المشرق والمغرب العربي على حدٍّ سواء، وإنْ يكن بنسب متفاوتة، والنسبية من طبيعة الأوضاع أكان في حقل الثقافة أو الحقول والميادين الأخرى.

خمولٌ إشكالي ملتبس في مسبباته، وهو أشبه بالزئبق كلما حاولنا الإمساك به يزوغ وينزلق، إذ ثمة دور نشر، ومنابر, ومنتديات. ثمة صحف, ومجلات، ومواقع إلكترونية. ثمة كتب صادرة حديثاً، وأخرى تُعاد طباعتها. غير أن بلادة الهمود بالغة، ومهيمنة، وثقيلة الظل!

يمكن الاستدلال على ذلك من الأعداد الضئيلة لحضور الأمسيات، ضآلةً باتت قاعدة عامّة -بحيث صارت كثرة الحاضرين استثناء لافتا- ومن شحّ المواضيع الثقافية الأدبية والفكرية والفنية في أحاديث الكتّاب والمثقفين إذ لم تعد الشاغل الرئيسي كما كانت، وكذلك من ندرة اللقاءات الدورية التي انتشرت فترة من الزمن لمناقشة كتاب أو عرض مسرحي, ثم تبددت!

ترافق ذلك كله مع مللٍ صريحٍ ونفور من الحديث عن ظاهرة الهمود الثقافي, وإعادة طرح الاجتهادات بشأن أسبابها، حتى بات حضور أربعين أو خمسين شخصاً في أمسية، أو غياب فنانين تشكيليين عن معارض لوحات ومنحوتات، أو الانخفاض الملحوظ في نسبة المبيعات في معارض الكتاب أموراً طبيعية لا استغراب إزاءها، معتادة جداً كاعتيادنا على انتشار المحمول وغياب الهاتف السلكي.

ستبقى الظاهرة ملتبسة، إذ قد تعود أسبابها إلى ثقل ظل الحياة السياسية العربية، وقد تكون بسبب المثقفين أنفسهم الذين دخلت فعالياتهم ونشاطاتهم في سُبات جراء تهدّم ممالك أحلامهم التي بنوها، وتقوّض آمالهم التي غرفوا من اخضرارها يوماً أجمل وأقوى أعمالهم الأدبية وحراكهم الثقافي.

"إن هناك ما يشبه الانزلاق المتدرج إلى سفح غامض، لكنه معتم، وتختفي في غياهبه أطياف تبعثر الأحلام القديمة النبيلة، والهوية، وأشواق الروح، والصمود أمام عواصف العولمة والتغريب والتدجين الفكري"، وفق تعبير الكاتب وليد منير منذ سنوات في استطلاع عن ظاهرة الخمول والاستنقاع الثقافي في مصر.

في حين كان للروائي إبراهيم عبد المجيد، آنذاك، وجهة نظر أخرى إذ إن "ما يشغل المجتمع المصري الآن هو قضايا الإصلاح والديمقراطية وهي المهمة الرئيسية لأي مثقف، لأن الأدب يستطيع أن ينتظر".

يستطيع أن ينتظر حقاً، أم أن ظلّ الحياة السياسية البائس ينسحب على الحياة الثقافية أيضاً، بحسب ما يُمكن استخلاصه من وجهة نظر الروائي عبده جبير؟

ستتعدّد الأسباب بتعدد آراء المشتغلين في الحقول الثقافية والفنية، ولكن الهمود والخمول وبلادة الحياة الثقافية في البلدان العربية يبقى واحداً.

ومرة أخرى: ستبقى الظاهرة ملتبسة، إذ قد تعود أسبابها إلى ثقل ظل الحياة السياسية العربية، وقد تكون بسبب المثقفين أنفسهم الذين دخلت فعالياتهم ونشاطاتهم في سُبات جراء تهدّم ممالك أحلامهم التي بنوها، وتقوّض آمالهم التي غرفوا من اخضرارها يوماً أجمل وأقوى أعمالهم الأدبية وحراكهم الثقافي.

وقد يكون بسبب التضييق على المبدع وإرهابه سواء من السلطات والأنظمة الحاكمة، أو من الظلاميين والمتطرفين، مما أدخل الحياة الثقافية في استنقاع تفوح منه روائح اليأس، أو ربما يكون مما يراه البعض من أن زمن الإبداع العربي قد ولّى، وأن عصر التألق الثقافي، والحوارات الخصبة، والمذاهب الثقافية متكاملة الملامح, وقوة حضورها قد أفل، بحيث لا يعدو الراهن أن يكون سوى صدى الماضي الثقافي المزدهر بعد أن بهت كثيراً!

ما الجدوى من البحث عن الأسباب؟ وما الغاية من تحليل ظاهرة استنقاع الحياة الثقافية العربية؟ والحال هي أن ما قدّمه المفكرون العرب في دراساتهم وكتاباتهم، وما بيّنه الكتّاب والفنانون من مظاهر وحالات ووقائع، وما طالب به الجميع للنهوض والارتقاء بالحياة الثقافية والفكرية يساوي -لو جُمع- مجلدات ومجلدات. ورغم ذلك تستمر الحياة الثقافية في الذبول على مرور الزمن، وتزداد تبلداً.

ولكنْ، ما الجدوى من البحث عن الأسباب؟ وما الغاية من تحليل ظاهرة استنقاع الحياة الثقافية العربية؟ والحال هي أن ما قدّمه المفكرون العرب في دراساتهم وكتاباتهم، وما بيّنه الكتّاب والفنانون من مظاهر وحالات ووقائع، وما طالب به الجميع للنهوض والارتقاء بالحياة الثقافية والفكرية يساوي -لو جُمع- مجلدات ومجلدات. ورغم ذلك تستمر الحياة الثقافية في الذبول على مرور الزمن، وتزداد تبلداً.

وفي الواقع, فإنني لطالما تساءلت: لِمَ ائتلقت الحياة الثقافية وازدهرت من فكر وفن وأدب، من آراء وحوارات ومدارس واتجاهات، من ملتقيات ومنتديات وفعاليات، من أعمال صادرة ومجلات وصحف مثّلت وعكست معالم حياة ثقافية حيّة، ناشطة، ومعافاة خلال الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات وصولاً إلى الستينيات من القرن المنصرم؟

ثم، لِمَ راحت حياتنا الثقافية تبهت وتخمد وتتبلّد بالتدريج على مدار عقود السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وصولاً إلى يومنا هذا؟

بلى هناك مسرحيات تُعرض، ولكن ما من حياة مسرحية. وثمة أفلام طويلة وأخرى قصيرة تظهر، ولكن ما من حياة سينمائية. ويتمّ تقديم معزوفات, ولكن ما من حياة موسيقية. لكأننا نبدع اليوم جراء العادة الممتدة من الأمس. لكأننا نقيم الندوات ونلتقي, لا لشيء سوى لحماية أنفسنا من نسيان الندوات واللقاءات.

أيكون ما قلته من قبيل التشاؤم؟ أو الميل إلى المبالغة بغية تركيز الإضاءة على الظاهرة وعرضها؟ أم لأن الواقع هو كذلك يعرفه المشتغلون بالثقافة ويلمسونه؟ أياً يكن, فلست بصدد البحث والكشف عن أسباب سبق الكشف عنها مراراً, ولا في وارد تقديم اجتهاد وتحليل إلى ما قُدّم من اجتهادات وتحليلات, إذ ما لم ينفع بالأمس لن ينفع اليوم, فضلاً عن أن الظاهرة لا تعدو جزءاً صغيراً -كما لا بدّ من الاعتراف- من كلٍّ أكبر بكثير!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب وقاص سوري

المصدر : الجزيرة