شكوى النجوم

مقال الكاتب ابراهيم صموئيل

إبراهيم صموئيل

كيف لنا أن نتيقّن من مصداقيّة قول كاتب كبير أنه ظُلم من قِبل النقّاد والدارسين، كونهم لم يوفوا أعماله حقّها من البحث والمعالجة والنقد الأدبي؟ هل نعود إلى عدد المقالات والأبحاث التي كُتبت عن أعماله؟ إلى عدد الأمسيات التي أقامها؟ عدد الحوارات التي أُجريت معه، فنحكم له أو عليه؟

أم أننا نقارن بين مدى حضوره في الحياة الثقافية، وظهوره، والاهتمام الذي يناله من قرائه والمعجبين بأدبه وكتاباته وعدد الطبعات التي لأعماله.. وبين المعطيات المشابهة لكتّاب آخرين في البلد نفسه؟

أم تراها الحسابات والموازين والمكاييل والأعداد والمقارنات، مجرد عمل عبثي لا يمكن حصره ومعرفته، وإذا ما تمكّنا من ذلك فلا يجوز الأخذ بنتيجته واستخلاص الحكم منها، إذ كم من قليل كان أبرز من كثير، وأشدّ جذباً، وأقوى حضوراً؟

الدكتور فؤاد زكريا، مثلاً، أحد أعلام الفكر التنويري العلماني المنفتح المعروف بموضوعيته ودقة أبحاثه ومقالاته، ذائع الصيت والشهرة، أبدى في حوار معه في مجلة "العربي" الكويتية استياءه من أن النقّاد لم يُولوا أعماله وكتاباته الاهتمام اللازم والكافي

أم أن الأصل في كل ما سبق هو شعور الكاتب وإحساسه الداخلي بالغبن والحيف الذي لحق به وبأعماله، وشكواه الصريحة من ذلك، عملاً بمبدأ أن الأقدر على معرفة الظلم والأعلم بتقدير ثقله وشدّة أثره إنما هو المظلوم ذاته، أي الكاتب في موضوعنا هنا؟

حتى في اعتماد المقترح الأخير سنقع على حالات مدهشة تثير الاستغراب والذهول حقاً، فنكاد لا نصدّق صدورها عن أصحابها هؤلاء!

ويتولّد الذهول على وجه التحديد، من التباين بين كونهم على تلك الدرجة من الشهرة وذيوع الصيت والحضور في الحياة الثقافية والإعلاميّة ومعرفة كتاباتهم من قِبل قراء كثيرين، وبين استيائهم الذي يُبدونه على نحو صريح جراء تقصير نقدي وقع هنا، أو إهمال جرى هناك من قِبل الدارسين والنقاد بحقّ أعمالهم.

الدكتور فؤاد زكريا، مثلاً، أحد أعلام الفكر التنويري العلماني المنفتح، المعروف بموضوعيته ودقة أبحاثه ومقالاته، ذائع الصيت والشهرة، أبدى في حوار معه في مجلة "العربي" الكويتية استياءه من أن النقّاد لم يُولوا أعماله وكتاباته الاهتمام اللازم والكافي، وأنه ليستغرب هذا الوضع النقدي بعد كل ما قدّمه من كتابات وآراء في شؤون الفكر!

وإحسان عبد القدوس الذي صارت رواياته وقصصه أشهر من نار على علم، والذي قُرئت أعماله من أجيال وأجيال، وظلّ اسمه حاضراً حتى يومنا هذا؛ استاء بوضوح تام -في حوار متلفز أجراه مفيد فوزي- من تقصير النقد الأدبي إزاء أعماله، مؤكداً أنها لم تنل ما تستحقه من دراسات متأنية، معمّقة، رغم إنتاجه الروائي والقصصي الغزير!

وخلافاً لما يمكن أن يتوقّعه أي ناقدٍ أو قارئ من أديب مثله، بسبب انتشار اسمه وذيوع قصائده على كلّ لسان، بحيث صار اسمه نظير الشعر وتوأمه؛ أظهر نزار قباني -في حوار متلفز طويل عن رحلته الأدبية- أسفه وتذمّره من حال الإهمال النقدي لأعماله النثرية، رغم أن ما كتبه نثراً يفوق أهمية ما قدّمه من شعر، وفق قوله! مضيفاً أنه كان عَبْرَ النثر أكثر طلاقة وحرية في التعبير الأدبي، وأعمق تعبيراً عن ذاته ورؤيته، ومع ذلك -يقول قباني مستغرباً ومحتجّاً- فإن النقد لم يلتفت الالتفات الكافي إلى أعمالي في النثر!!

كثيراً ما عبّر مبدعون عن تقديرهم ورضاهم وامتنانهم للدراسات النقدية التي تناولت أعمالهم واهتمّت بها، ومنهم على سبيل المثال: نجيب محفوظ ومحمود درويش، كما جاء في أكثر من حوار جرى معهما

بالطبع، لا تخفى الطرافة في عتب شاعرنا، إذ حين لم يجد أن من الممكن معاتبة النقّاد لتقصيرهم إزاء شعره، وجد منفذاً إلى معاتبتهم على تقاعسهم حيال نثره!!

ومن المؤكد أن مبدعين آخرين -فضلاً عمّن ذكرتهم على سبيل المثال- تكرّسوا وذاع صيتهم الأدبي الإبداعي وقُرئت أعمالهم على أوسع نطاق، قد عتبوا على النقاد من هذا الجانب أو ذاك، وتذمّروا من الإجحاف النقدي بحق ما كتبوه أو إزاء بعض ما أبدعوه!

أتراه الكاتب هكذا يرى في أعماله وكتاباته وفي الجهد الإبداعي المبذول فيها ما هو أكبر بكثير، وأهم بكثير، مما قدّمه النقاد والدارسون عنها من كتابات؟ أم لأن المنجز الإبداعي بطبيعته، تصعب على دراسته النقدية أن توازيه في السوية والعمق؟ أم ليس لهذا ولا لذاك، بل – ببساطة- لأن العلاقة بين الكتّاب والنقّاد تاريخيّاً هي في أخذٍ وردٍّ، وعتب وصدٍّ، لا ينتهي؟!

ما يلحّ على التساؤل أن العلاقة بين المبدعين والنقّاد لم تكن كذلك على الدوام، ولا هي قائمة بالضرورة، إذ كثيراً ما عبّر مبدعون عن تقديرهم ورضاهم وامتنانهم للدراسات النقدية التي تناولت أعمالهم واهتمّت بها، ومنهم على سبيل المثال: نجيب محفوظ ومحمود درويش، كما جاء في أكثر من حوار جرى معهما.

في اعتقادي أن علّة الشكوى والتشكّي والتذمّر تتولّد من شخصية بعض الكتّاب المتطلّبة على الدوام رغم ما ناله أصحابها، وانتفاء هذا الميل وذاك التطلّب لدى كتّاب آخرين رغم ما قد يحدث من تقصير.

أما ما يثير الاستغراب والنفور من المبدعين كثيري الشكوى، فهو عمّا يمكن قوله إذا ما قارنّا حالهم  مع حال مبدعين ومبدعات بذلوا الكثير من الجهد، وأضافوا ما كان علامة حقيقية في ميادين الأدب، والفكر، والفن، وبرغم هذا تمَّ تجاهل أعمالهم وكتاباتهم، فظُلموا بذلك على نحو كبير جداً من النقاد والدارسين والحياة الثقافية، واستمر هذا الظلم إلى أن قضوا، فلم ينلهم شيء من تسليط الضوء على أعمالهم  فيما بعد، والذي يجيء عادة بمثابة حركة اعتذار متأخّرة؟!

المصدر : الجزيرة