جحيم السجون السورية في "عربة الذل"

غلاف رواية "عربة الذل" للسوري حسام خضور
undefined
أنطوان جوكي-باريس
 
حين صدر كتاب السوري حسام الدين خضور "عربة الذل" عام ٢٠١٢ في دمشق، لم يلقَ أيَّ صدى في العالم العربي على رغم أهميته الأدبية البالغة وتشكيله في الوقت ذاته شهادة فريدة ومؤثرة على حال السجون السورية التي أمضى خضور فيها 15عاما بتهمة "إعاقة تطبيق القوانين الاشتراكية"، وقد صدرت ترجمته الفرنسية حديثا عن دار نشر "برنار كامبيش" السويسرية.

وتجدر الإشارة أولا إلى أن "الجنحة" التي اعتُقل خضور بسببها هي في الواقع شراؤه من شخص عملة أجنبية (ألف دولار) للسفر إلى إسبانيا! جنحة كادت تقوده إلى حبل المشنقة نظرا إلى إصدار حكم بالإعدام فيه قبل تخفيف عقوبته إلى السجن عشرين عاما.

وخلال السنوات الطويلة التي أمضاها في سجن دمشق المركزي (١٩٨٦-٢٠٠١) خط خضور كتابه بهدف الشهادة على الفظائع التي شاهدها داخل السجن المذكور، وأيضا بهدف الإفلات من حالة اليأس التي تربصت يوميا به وتأمين فسحة من الحميمية الافتراضية -بواسطة الكتابة- في مكان يفقد الإنسان داخله كليا حميميته.

خط خضور الكتاب كشهادة على الفظائع التي شاهدها داخل السجن، وبهدف الإفلات من حالة اليأس التي تربصت يوميا به، ولتأمين فسحة من الحميمية الافتراضية بواسطة الكتابة

قصص سوداوية
ويتألف الكتاب من ١٨ قصة قصيرة مشيدة بإحكام، يتناول خضور فيها عمليات الإذلال والتعذيب التي يخضع لها سجناء الحق العام في سوريا متوقفا عند معاناتهم اليومية من الجوع والخوف والعزلة، وعند طبيعة العلاقات في ما بينهم التي تتراوح بين أخوة وعنف مجاني، وأيضا عند الزمن الذي يتوقف داخل السجن والنقاشات الأيديولوجية والشخصية التي تدور في أروقته، دون أن يهمل مهزلة المحاكمات والتوق الثابت والمستحيل للسجين إلى الحرية.

قصص سوداوية لا يلطفها سوى زيارات عصفور لأحد السجناء في إحداها والرقة التي يعتني بها سجين آخر بقطة. ومع أن خضور يسعى من خلالها إلى فضح المعاملة البربرية التي يخضع لها "نزلاء" هذا السجن، لكنه لا يعمد إلى تلطيخ خطابه بالدم بشكل ثابت. فببضع كلمات في كل قصة ينجح في قول الرعب ووصف العذاب، وبالتالي ينجح في كشف كيف يتمكن إنسان من تحويل أخيه الإنسان إلى حيوان أو آلة.

فثمة قصة حول سجين يجبره سجانه دوما على النباح وينتهي به الأمر إلى فقدان لغته البشرية. وفي قصة أخرى، يستخدم سجين لغة النهيق لإضحاك جلاديه وثنيهم عن متابعة تعذيبه. وفي قصة ثالثة، يفقد سجين، بسبب سخرية رفاقه منه، إرادته وكرامته كليا ويتحول إلى إنسان آلي ينفذ دون تذمّر كل ما يطلب منه، بما في ذلك القتل.

ومن بين القصص المؤثّرة الأخرى، تلك التي يتمرد بعض السجناء فيها على سجانيهم لتحسين ظروف اعتقالهم المأساوية وتنتهي بقتل قائد هذا التمرد رميا بالرصاص، وقصة السجين الذي ينام على أمل لقاء امرأة شاهدها مرة في حلمه، وقصة المحامي الذي لن يعود إلى منزله بعد إخلاء سبيله ولا نعرف إن كان السبب هو جنونه أو خوفه من أن يعتقل مجددا أو تصفية المخابرات السورية له فور خروجه من السجن لمعرفته أسرارا تعرض كبار المسؤولين في أجهزة الدولة إلى فضيحة كبيرة.

لكن القصص التي يصعب نسيانها في هذا الكتاب تلك التي نتعرف فيها إلى السجين هشام الذي ينتهي به الأمر إلى تفضيل التعذيب على محنة العزلة والصمت، وقصة القاصر خالد الذي نرافقه في اللحظات الأخيرة من حياته قبل أن يعدم شنقا، وقصة الشاب سعد الذي سيخرج من السجن بذعر مرضي (phobia) واختلاج صَرَعي بسبب عمليات الاغتصاب التي تعرض لها خلال فترة اعتقاله.

يشكل الكتاب بلغته المقتضبة والمشغولة وأسلوبه السَلِس وغنى مفرداته عملا أدبيا حقيقيا، يقود خضور من خلاله تأملات عميقة وثاقبة حول السجن عموما 

عالم كافكا 
أما القصة الأخيرة التي تحمل عنوان "العفو العام" فيسلط خضور الضوء فيها على الأمل بالتحرر الذي يعتري السجناء في كل مرة تحصل فيها مهزلة الانتخابات الرئاسية في سوريا. أمل لن يلبث أن يتحول إلى سراب بعد إثارته أحلاما كثيرة.

يدعونا خضور في "عربة الذل" إلى جولة داخل الجحيم، عبر تصويره عالما مغلقا يسيجه الألم واليأس والموت ويستحضر بجانبه الكابوسي وسيكولوجية سجانيه كتاب فرانز كافكا "مستوطنة العقاب".

ولا مبالغة في هذه المقارنة، فأكثر من مجرد شهادة فجّة على عذابات السجناء أو خطاب ضد الجانب الاعتباطي للسلطة في سوريا، يشكل هذا الكتاب بلغته المقتضبة والمشغولة وأسلوبه السَلِس وغنى مفرداته عملا أدبيا حقيقيا يقود خضور من خلاله تأملات عميقة وثاقبة حول السجن عموما ونتائجه السلبية على المسجونين، مستعينا في ذلك بتجربته المريرة والطويلة في سجن دمشق، "النموذجي" على أكثر من صعيد.

وفي هذا السياق، يتحلى وصفه لنفسية السجانين بدقة عيادية نستشفها أيضا في تشخيصه حالة الإنسان المسجون منذ فترة طويلة، واستخلاص رغباته وأحلامه وهواجسه. أكثر من ذلك، يتمكن خضور في إحدى القصص من الغوص بنا تحت جلد أحد القضاة داخل المحكمة، ومن إطلاعنا على ما يدور في خلده، عملية يكررها مع القاصر خالد فيكشف لنا ببصيرة نادرة الأفكار التي تعبر ذهنه وعوارض جسده قبل وخلال لحظة إعدامه.

المصدر : الجزيرة