الهوية والذاكرة بمعرض فلسطيني بباريس

Basma Alsharif_Home_movie_1_h
undefined

أنطوان جوكي-باريس
 
يجمع معرض الفنانيْن الفلسطينييْن يزن الخليلي وبسمة الشريف في غاليري "إيمان فارس" الباريسية بين التجربة الشخصية والحدث العام والواقعة السياسية ضمن مزيج مبتكَر. وإذ يشهد مسارهما على علاقة معقدة ومميّزة مع تاريخ وطنهما ومستقبله الملتبس، تقترح أعمالهما وسيلة بديلة لفهم مشهده السياسي.
 
وتجدر الإشارة بداية إلى أن هذه الأعمال تتجنّب ببنيتها الدلالية المواجهة المباشرة مع الموضوع السياسي لتركيز الفنانيْن فيها على الاستكشاف الحميمي للبيئة التي تحيط بكل منهما، وعلى مساءلة ما يحدث وراء ما هو ظاهر ومعروف.
 
فمن خلال الصورة الفوتوغرافية والنص (وسيطاه المفضّلان) يتعمّق الخليلي (المولود عام ١٩٨١) في المشاهد الطبيعية والجغرافية المشحونة بالدلالات، لنسج قصص موازية يطرح فيها أحيانا أسئلة مستحيلة هدفها إثارة اللاوعي الجماعي.
 
‪(الجزيرة)‬ من أعمال الفنان يزن الخليلي
‪(الجزيرة)‬ من أعمال الفنان يزن الخليلي

مقاربة للجدار
وفي هذا السياق، انبثقت أعماله المعروضة تحت عنوان "عن الحبّ ومشاهد أخرى"، وتشكّل تساؤلا حول عملية تمثيل الجدار الذي شيّدته إسرائيل لعزل الأراضي الفلسطينية.

ولأن هذا الجدار تم استخدامه واستهلاكه كصورة إلى حد تحوّل فيه إلى موضوع مبتذل، يتبنّى الفنان منظورا آخر لمقاربته يقوم على عدم إظهاره أو على استبداله بأفق مفتوح أو على تشخيصه، مشدّدا في ذلك على الشعور الناتج عن وجوده -أي الغمّ والضيق- وموحيا بقصّة هي في الوقت ذاته فعل مقاومة له.

وفعلا، يتخلل كل عمل من أعمال الخليلي الفوتوغرافية المعروضة جملة داخل شريط رفيع، هي كناية عن ملاحظة أو انطباعٍ له، يروي من خلالها قصّة حبّ عاشها مع امرأة تخلت عنه مؤخّرا تاركة خلفها صورا كثيرة لا يظهر الفنان أو الجدار المذكور فيها. وهذا الغياب تحديدا يتوافق مع الشعور الذي تخلّفه المشاهد الحاضرة في أعماله.

وليس جديدا تعاملُ الخليلي مع الصور الفوتوغرافية كنص سردي بذاته ذي صلة بالصراع على المكان وبالهوية بمعناها الوطني والإنساني. ففي مشروعٍ سابق -صدر في كتاب بعنوان "مشهد العتمة" وتضمّن أيضا نصوصا نثرية لعدنية شبلي ويزي عناني وريم فضة- نشاهد له صورا رائعة حول المشهد الطبيعي الفلسطيني في الليل، هي كناية عن "تسجيلات للحيّز وإنتاجات الجغرافيا وذاكرة المكان، وجميعها مرادفات لموروثات فكرية حول الانتماء".

وعلى ضوء الإجراءات العسكرية الإسرائيلية اليومية التي تهدف إلى تقطيع المفهوم الفلسطيني للجغرافيا والزمن المتواصلَين، تأخذ هذه الأعمال كل قيمتها.

وحول هذا المشروع تقول ريم فضة "يدعونا الخليلي إلى طبقات العتمة لأنّ العتمة تصبح غطاءً رمزيا. العتمة التي تغلف المشهد تمثّل شيئا ما في العلاقة مع وعينا الفراغي. يعمل (الفنان) في العتمة ليحرك استخدام الذاكرة والخيال. وهل من طريقة أخرى لوصل المكان اللامتصل؟ هل من طريقة أخرى لنتذكّر محيطنا، وندمج هذه الخطوط الممزقة والمناطق غير المستوية للأرض المعاشة؟".

لا يخلو عمل الفنانة بسمة الشريف من شعرية حقيقية، نظرا إلى عدم تركيزها على الدمار والمعاناة، وتصويرها حدائق البيوت الجميلة والشاطئ على خلفية أصوات مختلفة ترتفع في أجواء المدينة وتُثبت استمرارية الحياة فيها

التاريخ والذاكرة
من جهتها، تركّز بسمة الشريف (المولودة عام ١٩٨٣) على ظاهر المعلومة في عملها من خلال مقاربة شخصية للصراع الإسرائيلي/الفلسطيني، وتعمل على الصورة المتحرّكة لخلق فيديوهات وتجهيزات تتضمّن في تركيبتها صورا فوتوغرافية ونصوصا ورسوم.

ونظرا إلى تجوالها الثابت بين مدن الشرق الأوسط وأميركا وأوروبا، فإن عملها يأخذ نقاط ارتكاز مختلفة تدعونا إلى التوفيق بين أفكار متناقضة وصور ولغات وأصوات.

وتنقُّل بسمة لا يقتصر على الفضاء الجغرافي بل يشمل التاريخ والذاكرة الجماعية. وفي ذلك تستخدم شخصية المجهول لتناول قضايا جيوسياسية قريبة وبعيدة، وكشف تأثيرها علينا عاطفياً وجسدياً، حتى وإن تجاهلناها.

كما تنسج بواسطة الرموز البصرية مجموعة مختارة بعناية من المواد تهدف من خلالها إلى تحقيق اللامركزية في المكان، والمحتوى، والوسيط، حيث لا يوجد على الإطلاق نقطة محددة تركّز عليها في عملها بقدر ما تحاول ابتكار فضاء من الحقائق والأرقام والصور الفوتوغرافية، والأغاني واللغات التي تصبح في نهاية المطاف بمثابة اختبار للتجربة بدلاً من فهمها.

وفي المعرض الحالي، تشارك بسمة الشريف بفيلم صوّرته في غزّة العام الماضي، وتظهر فيه هذه المدينة على شكل قلعة منكوبة ومعزولة جغرافياً وزمنيا، تكسو جدرانها رسوم الغرافيتي والشعارات وتعجّ بالناس والسيارات.

مدينةٌ نشاهدها من الشارع ومن داخل بعض بيوتها من خلال لقطة واحدة، متحرّكة وسريعة، تتميّز بواقعية شديدة، قبل أن تشحنها الفنانة في النهاية ببُعدٍ استيهامي واضح يعكسه تلاعبٌ في ألوان الأشياء المصوَّرة.

ولا يخلو هذا العمل من شعرية حقيقية، نظرا إلى عدم تركيز بسمة فيه على الدمار والمعاناة، وتصويرها حدائق البيوت الجميلة والشاطئ على خلفية أصوات مختلفة، ترتفع في أجواء المدينة وتُثبت استمرارية الحياة فيها.

وللفنانة أعمالٌ أخرى معروفة، نذكر منها: فيديو "وبدأنا بقياس المسافات" التي نالت عليها جائزة "بينال الشارقة ٩" عام ٢٠٠٩، ويظهر فيها أشخاص يجهدون في قياس المسافات بين الأمكنة، قبل أن ينتهي الأمر بهم على شاطئ غزّة، أو فيديو "كلّ الأمكنة متشابهة" الذي تعرض الفنانة فيه صوراً لمساحات مهجورة، وتسرد في الوقت نفسه قصة أختين وجدتا نفسيهما على شاطئ جنّة مقبلة على الهلاك.

أما فيديو "قصة حليب وعسل" فنشاهد فيه رجلا يروي تجربته الشخصيّة عبر كتابة قصة حب عاشها في بيروت، ويسائل فيها الذاكرة الجماعية في محاولة للإفلات منها. وفي سبيل ذلك، يشوّش على نفسه فيصوّر أفرادا يتمشّون على الكورنيش، ويقرأ تاريخ المنطقة القديم والحديث، ويقلّب صفحات كتاب عن النباتات ويمحو وجوها في صور عائليّة قديمة، حتى يفشل في التمييز بين صور عائلته وصور العائلات الأخرى، قبل أن يتبيّن له -عبر عشرات الكليشيهات التي تتكرّر على الشاشة، وتركيب صوتي مشوَّش بدوره- صعوبة الإفلات من تاريخ المنطقة المتوارث.

المصدر : الجزيرة