"ضمير السيد زينو".. الإنسان وأزمة المعنى

غلاف رواية "ضمير السيد زينو" للإيطالي إيتالو سفيفو
undefined
هيثم حسين
 
استشرف الإيطالي إيتالو سفيفو في روايته "ضمير السيّد زينو" الاضطرابات المتوقعة نتيجة تأثير الإشكاليات التي رافقت التحولات الجذرية في المجتمع الإيطالي إبان الانتقال إلى الحقبة الصناعية من حيث القيم والمبادئ. عمل سردي يعي وجود أزمة كونية تؤثر على الإنسان أينما كان، وربما إلى وقتنا هذا.

وبالرغم من مرور ما يقارب تسعة عقود على صدور هذه الرواية -ترجمها معاوية عبد المجيد ونشرتها دار أثر بالرياض مؤخرا- فإنها ما تزال تحتفظ بمعاصرتها وتجددها، ذلك لأنها تصور هموم الإنسان وقضاياه الجوهرية عبر الأزمنة، كالحرب والسلام، والحب والكره، والوجود والفناء، ناهيك عن تعمقها في مجال التجارة والسياسة والاقتصاد، وهي بذلك كله لا ترتهن لفترة زمنيّة محدّدة، كما لا تفقد امتداديتها التي تميزها وتضفي عليها التجدد والاستمرارية.

سفيفو (واسمه الحقيقي إيتوري شميتز) الذي كتب عدة كتب قبل روايته هذه، ولم تنل نصيبها من المتابعة والاهتمام، تعرف إلى الشاعر الإيرلندي جيمس جويس الذي كان يدرس الإنجليزية في بلدته "تريستا"، وتأثر بعوالمه وثقافته، كما أنه اهتم بالتحليل النفسي، وكان قد ترجم كتابا لفرويد إلى الإيطالية.

يعتمد سفيفو -المتأثر بفلسفة الألماني شوبنهاور وبعلم النفس التحليلي- أسلوب المناجاة الداخلية ليعبر عن بواطن النفس البشرية وعن ذلك الإنسان التائه المختنق

طوق نجاة
أيام الحرب العالمية الأولى والتي خلفت تأثيرات عميقة في بنية المجتمعات الأوروبيّة عموما، تشكل بؤرة انطلاق سفيفو الذي يكتب روايته وكأنها خطاب مريض لطبيبه الذي يطلب منه البوح بكل ما يجول في خاطره، كي يساعده على الشفاء.

يعتمد سفيفو -المتأثر بفلسفة الألماني شوبنهاور، وهو من أصول ألمانية، وبعلم النفس التحليلي- أسلوب المناجاة الداخلية ليعبر عن بواطن النفس البشرية وعن ذلك الإنسان التائه، والمختنق الذي يفقد قدرته على الانخراط في مجتمع، كل شيء يفقد معناه بما في ذلك الأهواء.

يتوجه "السيد زينو" إلى الطبيب المرموز له بحرف "س"، فيفصح له بالكثير من أسراره وتفاصيل حياته، ويخاطبه بين الفصل والآخر أو خلال بعض المقاطع، مشيرا إليه أنه لن يستطيع الاستدلال إلى علله، لأنه يخلط الواقع بالخيال، وأنه لا جدوى من التحليل النفسي الذي قد يمارسه عليه ويحلل كتابته بغية تفكيكها والتعرف إلى عقده المستعصية. يحضر الطبيب كمتّهم بريء في الوقت نفسه، يكون حضوره طيفيا لكنه مؤثّر.

يتكئ الكاتب على سيرته الذاتية، لكنه يتوسع ليعالج أزمات وجودية وقضايا مفصلية في تلك الحقبة وما تلاها، وينقل بكتابته تجارب كثيرة تنعش رغبات يجهضها الواقع، وكأن الكتابة تشبه طوق نجاة منشود، أو أنها ستشهد على أهميتها عندما ينجح المرء في رؤية نفسه بصورة كاملة.

يتخذ السرد صيغة الاعترافات التي يدلي بها السيد زينو لطبيبه وقرائه، يعترف بفشله وإخفاقاته المتتالية ولا يتحايل على الواقع أو يحرفه أو يزيفه، تكون اعترافاته طريقه إلى اكتشاف مكنوناته وذاته، يضع نفسه في فخ المساءلة، يستجوب ماضيه وحاضره، ينقل غربته الداخلية وحيرته واضطرابه.

يبتغي التعرف إلى نفسه في عيون طبيبه، الذي يفترض أن ينكب على تحليل ما بين سطوره عساه يكشف عما في صدره من خوف يتناهبه من الزمن والشيخوخة والمرض والفشل وغير ذلك كثير، وبخاصّة أنه يعيش ضمن موجة الشكوك النفسية التي لا تنتهي.

يتزوج زينو إحدى بنات شريكه، في حين كان يحب أختها التي رفضته، وحين رفضته الثانية أيضا، اضطر لاختيار الثالثة التي ترغب به، وكأنه يختار القرب من حبيبته المفترضة على طريقته الغريبة، ثم يترك للطبيب تحليل سلوكه، ويدلي بدلوه في حالته، ثم ينتقل إلى عشق امرأة أخرى، ويتنازعه نوع من تأنيب الضمير على انقسامه بين عشق امرأة والاقتران بأخرى ثم خروجه مع ثالثة، واختياره طريقة مختلفة في التواصل.

يشير سفيفو إلى أنه يلزم البشر ما هو أعمق من التحليل النفسي حين تزدهر الأمراض ويكثر عدد المرضى في ظل قانون يضعه مالك أكبر عدد من الأسلحة

معارك متجددة
لا يتوقّف تأنيب الضمير عند حالة الجنس بعينها أو الاشتهاء أو اضطهاد الرغبة، بل تراه يجسد الضمير، وكأنه يجعل منه كائنا ذا وجود مادي بالإضافة إلى الجانب القيمي والاعتبارات الأخلاقية المفترضة، فيؤلمه ضميره ويبقيه أسير رؤى وتصورات وأفعال قد تقض مضجعه وتدفعه إلى سلوك سبل أخرى، أو تدخله في حالات نفسية مربكة، وتنشئ لديه اضطرابا لا يهدأ.

يبرز الروائي كيف أن انتهاء الحرب كان إيذانا ببدء معارك من نوع آخر، معارك على إعادة الإعمار المفترض، والتنافس على الحظوة بالمكتسبات، وإن كان هناك مَن ربح بالخسارة، ويسعى لتعديل ميزان الربح والخسارة لصالحه بشيء من التحوير والتحايل والتزييف.

كما يبرز مركزية بعض المدن أو الإهمال الذي تتعرض له، حين تنتقل من تحت سيادة دولة إلى سيادة دولة أخرى، كمدينته تريستا مثلا، إذ كانت ميناء مهمّا حين كانت تتبع النمسا، لكنها أصبحت مدينة هامشية على التخوم بعد أن أصبحت تابعة لإيطاليا، وفقدت دورها المحوري الذي كانت تمتاز به.

يستأنس سفيفو بشخصيات لكتّاب أثروا فيه، فتراه يتماهى تارة مع شخصية "غاليوتو" في "جحيم" دانتي، أو مع شخصية "إياجو" في "مأساة عطيل" لشكسبير، وهو في تماهيه ذاك يعبّر عن قلق الإنسان المعاصر الذي لا يختلف كثيرا عن ذاك الكائن الملحميّ الذي شغل بال دانتي أو شكسبير. كما يتماهى في بعض التصرّفات والخطوط بشخصيّة "الأبله" لدوستويفسكي، ولا سيّما في شخصيّته الفريدة النازعة إلى الغرابة، وربما إلى نوع من الجنون أيضا.

الإنذار الأخطر يتمثل في الخاتمة التي يختارها الروائي، والتي تبدو صدى تخوفاته إزاء المستقبل، حيث الكوارث الناجمة عن الأسلحة ستفوق أي توقع. ويشير إلى أنه يلزمنا ما هو أعمق من التحليل النفسي حين تزدهر الأمراض ويكثر عدد المرضى في ظل قانون يضعه مالك أكبر عدد من الأسلحة.

المصدر : الجزيرة