التونسي توفيق بن بريك و"الأدب الشرّير"

توفيق بن بريك :غلاف كلب بن كلب
undefined
كمال الرياحي-تونس
 
لم يكن الكاتب والصحفي التونسي توفيق بن بريك ينتظر صدور كتابه الجديد "كلب بن كلب"، ليثير عاصفة من الجدل بمعرض تونس الدولي للكتاب وخارجه، فشخصية بن بريك وطبيعة خطابه تطرحان العديد من الأسئلة والرؤى على المستوى السياسي والأدبي.

الجمهور تهافت على شراء الكتاب ليس لأنه كان دائما ينتظر جديد بن بريك -المناضل اليساري الذي عرف بصراعه الطويل مع الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي- بل لأن الكتاب الجديد حمل مفاجأة كبرى وهي لغته التي جاءت من الغلاف إلى الغلاف بالعامية التونسية.

وتأتي أهمية الكتاب في مراهنته على الدارجة أو العامية التونسية لمقاربة الواقع التونسي الاجتماعي والسياسي في نفس حكائي ساخر وصادم، كاسرا كل ضروب التقية ومعرضا الأدب لوحشية الخطاب في المتداول اليومي التونسي.

الإصدار "الذي هز ياقة اللغة العربية" ومس "اللحمة الحية" عند التونسي يأتي في شكل مؤلف ساخر وساحر، حكاية تداور الحياة بكل تفاصيلها وتمظهراتها السياسية والاجتماعية والثقافية، كتاب يعي تماما ما هو عليه: "حكاية في قلب الحكاية".

ما أقدم عليه توفيق بن بريك من سنوات وجسده بقوة في كتابه الجديد "كلب بن كلب"، هو إتاحة الأدب "لكل من هب ودب"، أي إشاعة الأدب بين كل أفراد الشعب والذهاب بالتجربة الأدبية نحو الشعبية لا الشعبوية

بن بريك رائد؟
لا يعد بن بريك رائدا في الكتابة الأدبية بالدارجة في تونس، فقد سبقه إلى ذلك جماعة "تحت السور"، ومنهم محمد العريبي وعلي الدوعاجي وكذلك عبد العزيز العروي ومحمد البشروش، ثم البشير خريف الذي راهن على العامية ودافع عنها بضراوة ضد من اتهموه بالمحلية. 

جاء بعد ذلك رواد حركة الطليعة الأدبية مع الطاهر الهمامي في "الحصار" وصالح القرمادي في "اللحمة الحية" وغيرهم، والذين اختبروا قدرات الدارجة التونسية وإمكاناتها وساندتهم في ذلك مؤسسات ووجوه بارزة في الساحة الثقافية نادت بما سمته تونسة الأدب التونسي.

ثم غامر عز الدين المدني بـ"الإنسان الصفر" قبل أن يكتب سيرته بالدارجة التونسية منذ سنوات فقط. ولكن هذه التجارب وخاصة المتأخرة منها كانت مجرد محاولات تنحو بالأدب نحو التجريب فأسقطته في نخبوية جديدة داخل النخبة نفسها.

أمّا ما أقدم عليه توفيق بن بريك من سنوات وجسده بقوة في كتابه الجديد "كلب بن كلب"، فهو إتاحة الأدب "لكل من هب ودب"، أي إشاعة الأدب بين كل أفراد الشعب والذهاب بالتجربة الأدبية نحو الشعبية لا الشعبوية في جرأة لغوية نادرة، وهذا في الحقيقة ما حوّل من الأميركي تشارلز بوكوفسكي كاتبا شعبيا رغم رقي ما كتبه فنيا.

والحق أن الأدب العالمي والأميركي تحديدا كان من الآداب اللافتة في هذا الشكل من التعاطي مع العامية والتجاسر على "الفصحى" وتهشيمها داخل جملة جديدة منبعها المتداول اليومي فكانت جماعة "البي" مع جاك كيرواك وغيره.

هذه القراءة تجعلك تتعرف على حقيقة التكوين الأدبي لتوفيق بن بريك قارئ جيمس جويس وهاضم آرثر ميللر وتشارلز بوكوفسكي والبشير خريف ومحمد العريبي وأبو القاسم الوهراني وأحمد التيفاشي ودانتي وسيرفانتس.

أدب شرير تكتبه العامية الضارية التي كانت تعجن في الأزقة والحارات كما يعجن الطين تحت أقدام البائسين والمدقعين

الأسلوب هو الرجل
وضع بن بريك كتابه تحت علامة أجناسية واضحة "حْكايهْ"، وهو بتسكين الهاء في نهاية كلمة حكايه يؤرضن التجربة في فضائها في اللهجة التونسية. وتذكرنا بحكايات الجدات والحكي الشفوي وحلقات الحي في مغربنا العربي والمشرق، حلقات القوالين في "ساحة الفنا" بمراكش المغربية، وحكايات التونسي عبد العزيز العروي والمقاهي الشعبية الأدبية بتونس في القرن التاسع عشر.

ومن ثم يجذّر بن بريك نصه في منجز أدبي محلي وآخر عالمي، ولكنه يضيف عليه مسحة من الجرأة تجعل من نصه مرادفا له، فلا يمكنك وأنت تقرأ نص بن بريك المكتوب بالعامية وهي لغة العموم أن تتوقعه من غيره، وهذه المفارقة، كيف يمكنك أن تحافظ على نفسك وأنت تتجول في مدينة الأشباه. كيف يمكن اكتشاف خصوصيتك وأنت تحمل نفس القناع الذي يحمله من بحفل التنكر؟ إنه الأسلوب.

"الأسلوب هو الرجل" عبارة فرنسية حفظناها عن ظهر قلب للكاتب الفرنسي جورج بُوفُّون يجسدها بن بريك في كتابه من خلال جملته التي تكسب الفجاجة فنية وتجعل من إيقاع الجملة يؤسس جمالية جديدة تقطع مع الجمالية القديمة للجملة العربية، فيستعين بن بريك بفنيات القص العربي القديم كالسجع والجناس أحيانا لكتابة سرد حداثي ليس بالمقامة ولا بسجع الكهان ولا هو بأدب الشذر ولا هو من نصوص الـ"وان مان شو" المعاصرة.

أدب شرير تكتبه العامية الضارية التي كانت تعجن في الأزقة والحارات، كما يعجن الطين تحت أقدام البائسين والمدقعين ليؤخذ يوما لبناء دور الغرام والحرام والشراب يرتادها المعتوه والمخمور والمجنون والـ"صبّاب" (الواشي) وسعد كوبوي أيضا.

سعد كوبوي، بكل سيرته المعقدة والمركبة لم يكن في النهاية، شخصا آخر غير توفيق بن بريك الذي تخفى وراءه كما تل الرمل ليرمي بنباله كما الشنفرى، الصعلوك الخارج عن قانون القبيلة

شخصية تونسية صميمة
سعد كوبوي رجل مر بأزمنة وأمكنة شتى، اشتغل بمهن شتى من التهريب وتبديل العملة إلى الكتابة الصحفية والأدبية. رجل منفلت اللسان يجوب العالم غير عابئ بالعواقب، يجوب الطرق مثل شخصيات أفلام الوسترن الأميركية التي تقتحم الحانات وتثير الشغب، تعنف وتتعرض للتعنيف وتمضي  خساراتها لاكتشاف العالم. لا تخفي "سقوطها" بل ترفعه شعار مقاومة وفضح لما يدبر بالليل وتحت الطاولات وداخل الغرف الموصدة.

لم يكن سعد كوبوي إلا صوت اللاوعي التونسي الذي أخرجه بن بريك للعموم كما أخرج من قبله سلفادور دالي فضائحنا السرية من خلال لوحاته السريالية.

سعد كوبوي، بكل سيرته المعقدة والمركبة لم يكن في النهاية، شخصا آخر غير توفيق بن بريك الذي تخفى وراءه كما تل الرمل ليرمي بنباله كما الشنفرى، الصعلوك الخارج عن قانون القبيلة ويطيح بالرؤوس تنفيذا لوعده القديم. وكانت اللغة النابية نبال بن بريك التي تدمي وتقتل.

حكايه بن بريك كتابة عارفة تعي نفسها وتحاورها وتناقشها لتنحرف بها عن سيرها وتحرفها حتى تؤسس لكتابة ثورية جديدة تقطع مع القديم لتجد للأدب التونسي طرقا أخرى يمكن أن يسلكها في مرحلة انتقالية على مستوى الرؤية للعالم وللذات.

قد لا تطيق قراءة كتاب "كلب بن كلب" لتوفيق بن بريك، لكنك لن تخرج منه كما دخلته. فالكتاب سيطيح لك بعدد غير قليل من قناعاتك ويحرجك ويخرجك من دغمائية الاتجاه. ويجعلك تسأل: "لماذا إلى الآن ما زلت أفتح التلفزيون والإذاعة لأسمع منهم؟". وكلما سمعت أحدهم أشرق في ذهنك "سعد كوبوي" دونكيشوت تونس الذي يأتي مترنحا كبطل سرفانتس ليصارع طواحين جهل أسود يأكل البلاد وثورة العباد.

المصدر : الجزيرة